البرادعي: الطريق الثالث بين النظام والإخوان

TT

هل محمد البرادعي ظاهرة صوتية، كالعم حسنين هيكل؟ أم هو ظاهرة ظرفية عابرة، كالمعلم حسن شحاتة مدرب «الكورة»؟ أم هو ظاهرة دولية، كسلعة نووية مستوردة، لها جاذبية تفوق السلعة المحلية؟

إلى الآن، جَسَّدَ البرادعي كل هذه الظواهر: يحتج صوتيا. ينعم باستقبال بحجم «كابتن كورة». يبدو مرشحا نوويا مشبعا بإشعاعات إصلاحية. كل هذه الظواهر البراقة مرشحة للانطفاء، إذا لم يتمكن هذا الرجل الجادّ من بناء مشروع سياسي، وبلورة موقف صريح. واضح من النظام. من الإخوان. من الأحزاب. من العرب. من إسرائيل وأميركا وإيران...

بدلا من ذلك، اختار الرجل المسن (68 سنة) الهرولة، على غير عادة المسنين. هرول لاهثا نحو الدخول في مواجهة إعلامية مبكرة مع النظام، منتهزا ظروف التوتر السياسي، من دون أن يدرك أن هذا التوتر الذي تسببه معارضة طويلة اللسان أو صحافة شعبوية، غير قادر على تحريك الناس في المدينة والغيط. الناس في مصر نخبة مثقفة وساسة وأحزاب منفصلة شبكيا وتنظيميا، عن الكتلة الاجتماعية الهائلة (80 مليون إنسان). كتلة مشغولة في النهار بالبحث عن لقمة العيش، ومنهكة في الليل، بمتعة إنجاب مليون مولود جديد، كل تسعة شهور.

«أنا راجل مستقل. أنا رجل قانون». البرادعي رجل «ضوغري». رجل منطق. حوار. عاقل. مسالم. حر. غير مرتبط بحزب. بحركة. مع ذلك، فهو يقع في تناقض هائل. اختار الانحياز إلى الأحزاب. أَطَلَّ على السياسة، من خلال سماع نصيحة مسبقة لهيكل. شكل جبهة وطنية للتغيير من «حكماء» الأحزاب والإخوان والحركات الموسمية والظرفية. كلهم لا يجمعهم سوى العداء للنظام. كان النظام ذكيا في التركيز على تناقضات القادم الجديد إلى السياسة: البرادعي «مخطئ». المنصب (الرئاسي) يحتاج إلى شخصية قيادية حزبية. رجل قضى فترة طويلة خارج البلد. تنقصه خبرة العمل السياسي.

من فُرجتي الطويلة على مسرح السياسة، يتملكني العجب الممزوج بالإشفاق. كيف يختار شخص ذكي، كالبرادعي، دخول المسرح السياسي مع ممثلين عاديين سبقوه؟ من هنا، فحديثي اليوم لا يندرج في هذا المألوف الذي نسمعه من مؤيدي الرجل ومعارضيه، إنما أختار تنبيهه، قبل فوات الأوان، إلى انتهاز الفرصة، لاختيار الطريق المناسب لدور سياسي حقيقي له، بدلا من الغرق في معارك المواسم الانتخابية.

لو استعان البرادعي بنظارات أوسع من تلك الملتصقة بِمُقْلَتَيْهِ، لشاهد حتما بوعيه وذكائه، مسرحا سياسيا مصريا ينفرد فيه فريقان مسرحيان. فرقة النظام الرسمي. وفرقة المسرح الإخواني. البقية تفاصيل حزبية أو ظرفية. هذا المسرح ينقصه فريق ثالث. طريق ثالث. قوة سياسية حزبية مستقلة. قوة لَمَّحَ إليها البرادعي نفسه، داعيا إلى «اشتراكية ديمقراطية». سمّاها أحيانا اشتراكية شمال أوروبا. ربما يقصد الاشتراكية الاسكندنافية.

في غياب مشروع سياسي مفصَّل، يبدو البرادعي غير واضح. هل يريد ليبرالية سياسية واقتصادية وَسَطية؟ هل يريد اشتراكية مثالية؟ على طريقة الاشتراكيين الفرنسيين والعماليين الإنجليز القدامى؟ أم هو يعني «الديمقراطية الاجتماعية» أو «الديمقراطية الاشتراكية»؟

الفرق دقيق بين الديمقراطيتين. لكي أسهِّل على قارئ الصحيفة العادي، وربما على البرادعي نفسه، أقول إن هذه المفردات الآيديولوجية يمكن استيعابها تحت مُسَمَّى واحدٍ: «الطريق الثالث» بين طريق «الرأسمالية الوطنية» للحزب الوطني الحاكم. طريق «الرأسمالية الدينية» الذي ينهجه مشايخ البزنس الأثرياء، في الحركة الإخوانية المصرية خصوصا، والعالم العربي عموما.

البرادعي مؤهل لتشكيل هذه القوة الليبرالية الحقيقية في مصر، لتكون أنموذجا مثاليا لقوى ليبرالية «ثالثوية» عربية. هذه القوة الجديدة مؤهلة لإنهاء الاستقطاب بين النظام الرسمي والقوى المتأسلمة، ولتقويض خرافة قوى ليبرالية غير حقيقية، كأحزاب الجبهة الوطنية الساكنة في رحم النظام في سورية، أو الأحزاب البعثية والناصرية والتيارات القومية غير المؤمنة بالحرية.

ليبرالية البرادعي يمكن أن تستلهم مسيرة اليسار الاشتراكي الأوروبي، نحو الوسطية الليبرالية السياسية والاقتصادية، منذ التسعينات، كرد على رأسمالية ريغان وثاتشر «المتوحشة». سياسيا، يستطيع البرادعي أن يؤكد على حقوق الإنسان. الديمقراطية. المكاسب الاجتماعية التي حققها كفاح عمال أوروبا وعامليها، منذ بداية القرن العشرين، من دون ثورات دموية.

حاليا، هناك مسيرة حكومية اقتصادية ليبرالية أو رأسمالية، في العالم العربي. دور الليبرالية «البرادعية» الدفاع عن مكاسب العمال والعاملين. نعم، توارى الوهم الاشتراكي والماركسي المثالي بتحقيق المساواة الاجتماعية. لكن لا بد لليبراليين والماركسيين العرب الحقيقيين، من تخفيف الهوة بين الطبقات الاجتماعية، والعمل على وقف انتهاك الضمانات الاجتماعية والنقابية لطبقتي البروليتاريا والوسطى. ذلك، لا يعني التخلي عن ليبرالية المشروع الاقتصادي الحر، ليبرالية الرأسمالية المشاركة في التنمية والاستثمار.

لست ضد البرادعي، عندما أقول إن سنّه «التقاعدية» لا ترشحه رئيسا مناسبا. لكن شيخوخته. إقامته الطويلة نسبيا في أوروبا وأميركا، أتاحتا له مجال متابعة وقراءة التطورات السياسية والاقتصادية، بعد انهيار الشيوعية، في عالم أكثر انفتاحا وتقدما، بحيث يستطيع أن يأخذ منها ما يلائم مجتمعه العربي، وما يتكيَّف مع تأسيس حزب ليبرالي، أو ديمقراطي اجتماعي. مهمة الحزب ملء الفراغ السياسي والفكري الحاصل في الهوة بين النظام الرأسمالي الحاكم، والإخوانية الرأسمالية التي لم تستطع، بعد أكثر من ثمانين سنة على تأسيسها، أن تقدم مشروعا سياسيا، وآخر اقتصاديا، يشرحان بالتفصيل شعارها المختصر (الدين هو الحل).

من هنا، فالنظام الرأسمالي الحاكم في العالم العربي أكثر وعيا وانتباها لمصالح الطبقتين الوسطى والبروليتارية من الحركات الدينية. بل أستطيع أن أقول إن من مصلحة النظام في مصر تسهيل وتشجيع البرادعي على تشكيل حزب ليبرالي وسطي، يحمل معه جانبا من عبء المواجهة مع التيارات الدينية المنغلقة.

ماذا يفعل «رجل صالون» يدق أبواب السبعين، في الطواف على القرى، والنزول إلى الغيط، كما تحاول توريطه القوى الحزبية والظرفية التي تركب موجته؟! التحدي الكبير لهذه القوى هو في تنبيهه وتشجيعه على تنمية الوعي السياسي والشعبي، ودمج الأجيال الجديدة في حزب لطريق ثالث، طريق سلمي مدني. بل يتعين على الحركات الظرفية، كحركة «كفاية»، وما شابهها، التخلي عن نزاعاتها الشخصية والضيقة، والانضواء والاندماج في حزبه المقترح، إذا كانت حقا حركات ديمقراطية وليبرالية.

حتى لو فاز البرادعي بالرئاسة، فمن دون قاعدة شعبية واسعة، وقاعدة حزبية رصينة، لن يستطيع أن يحقق الآمال البراقة التي يعلقها المصريون عليه. وكما أثبت سعد زغلول. النحاس. عبد الناصر. السادات. مبارك، فمصر يسهل حكمها. لكن تصعب إدارتها. إذا لم تكن هناك عبرة في تجارب هؤلاء، فلتكن العبرة للبرادعي في وعيه وذكائه، ثم في استقلاليته التي برهن عليها، خلال 12 سنة من رئاسته لمنظمة دولية، بأهمية الوكالة الدولية للطاقة الذرية.