حكاية بطتين

TT

العائد إلى بيروت، بعد ثلاثة أشهر أو ثلاثة أعوام أو ثلاثة عقود، كالعائد إليها بعد ثلاثة أيام، أو كالعائد إلى أبو سمبل بعد ثلاثة قرون. لا شيء يتغير سوى مركوم الزمان، وزيادة اليوم التاسع والعشرين في شهر شباط، وتغير تاريخ الصدور في الصحف، وهو حيلة بقائية للبيع، فلو أن الصحف لا تغير موعد الصدور، لما كانت هناك ضرورة لتغيير العناوين والأخبار أو مواضيع التعليقات.

عندما كنت طفلا، كنت أقرأ في المجلات التي يحملها أبي إلى البيت عن مشروع «من أين لك هذا؟»، حول محاسبة النواب والوزراء على الفساد. واليوم، يقع لبنان في الدرجة 130 في ترتيب الشفافية من بين 180 دولة، أي قبل نيجيريا بقليل، ولا يزال الموضوع الرئيسي في التعليقات والتصريحات هو محاربة الفساد. والموضوع الجديد الآخر هو تعديل الحكومة، ومن بنى قلعة بعلبك، ومتى يتحدث أبو الهول لكي ينضم إلى الذين يدلون بآرائهم حول مستقبل المنطقة، كأنما ليس واضحا أن مستقبلا زاهرا جميلا متسقا، ليس لك سوى أن تقرأه على هذه الوجوه الباسمة الحانية من حولك.

أبو سمبل يا مولانا، أبو سمبل. لا يتغير شيء سوى الغبار. وقد ينتقل الرمل من هنا إلى هناك من كثرة ملله، ونسارع نحن إلى تسمية ذلك بالتغيير، أو بالإصلاح أو بالأفراح، أدامها الله في دياركم.

وقد اعتاد اللبناني بلادة الحياة وأحبها، فهو يفضل أن يبقى بلا حكومة ستة أشهر على أن تشكل حكومة يصار إلى تفجيرها بعد ستة أيام. وهو يفضل أن يغلق برلمانه عامين من أصل أربعة، على أن يجتمع النواب حول كارثة، أو على فجيعة، أو على فظيعة. وقد تحول النقصان إلى قاعدة الزيادة والجمود، إلى قاعدة النمو والاطراد. والقاعدة تحولت إلى عادة، والعادة ارتضاء وسعادة.

إناء جميل معرض للكسر في أي لحظة. قد ينكسر بفعل صوت أوبرالي عال، أو بصراخ مقلوب مثل صراخ الذئاب الجائعة، أو بدخول فيل محل بيع الخزف. لذلك، أصبحت أمنية اللبناني القصوى أن يبقى كل شيء في مكانه.. الديون في مكانها، والفلتان القانوني في مكانه، وجنون قيادة السيارات كما هو، وهو مثل جنون البقر. ويسلي هذا الكائن المبتلى بسياسييه نفسه بالنكات على نفسه، ومنها أن بقرتين كانتا تتحدثان، فقالت الأولى: كيف تصرفت خلال موجة جنون البقر؟ قالت الثانية: كيف لي أن أعرف؟ ألا ترين أنني بطة؟!