.. عن الجهاد ضد سويسرا

TT

ماذا يجمع بين دعوة الزعيم الليبي معمر القذافي إلى الجهاد ضد سويسرا «الكافرة»، وبين هجوم رئيس الحكومة الإيطالية برلسكوني على قطاع القضاء في بلاده واصفا إياه بـ«طالبان»؟

غير الجيرة على ضفاف المتوسط، يجمع بين هذا الكلام وذاك استخدام المشاعر الدينية والوطنية العميقة لتحريك الجمهور المستهدف.

القذافي وبعد أزمة العلاقات بين سويسرا وليبيا منذ يوليو 2008 بسبب احتجاز الشرطة السويسرية لأحد أنجاله، قرر تذكر «الجهاد» في سبيل الله، ودعا في حفلة المولد النبوي الأخيرة في (بنغازي) إلى «الجهاد» ضد سويسرا قائلا إنها دولة كافرة تهدم المساجد. وقال في هذه الخطبة: «أي مسلم في أي مكان من العالم يتعامل مع سويسرا كافر ضد الإسلام.. ضد محمد.. ضد الله.. ضد القرآن».

أما رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني فقد رغب أن يشبه رجال القضاء الإيطالي بعناصر حركة طالبان، في نفس الأسبوع الذي غطي الإعلام المحلي فيه مقتل جندي إيطالي في كابل على يد مقاتلي طالبان. برلسكوني ليس على وفاق مع القضاء الإيطالي بسبب عدم صدور قرارات تناسبه من قبل القضاء. ولذلك دأب برلسكوني على اتهام القضاة بملاحقته قضائيا لأسباب سياسية، وأن اليسار الإيطالي يوجه القضاء.

وكان كاتب هذه السطور قد أشار في (13 أكتوبر 2009) في هذه المساحة من الجريدة إلى وصف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح لأنصار حركة الانفصال الجنوبي بالمرتدين عن الإسلام أو تشبيهه لهم بمن يرتد عن الإسلام، واعتبرت هذا التورط في الهجاء الديني وتوظيف التهم الدينية ضد الخصوم السياسيين فخا خطيرا يقع فيه الجميع.

أن يتهم رجال دين أو أنصار حركات إسلام سياسي خصومهم بالكفرة أو المرتدين أو أعداء الدين ويدعون إلى إعلان الجهاد عليهم، فهذا شيء مفهوم، وغير مقبول طبعا، لكنه «منسجم» مع طبيعة الخطاب السياسي لهذه الجماعات وشيوخها وناشطيها.

ما هو غير مفهوم أن يستخدم ساسة علمانيون هذا الأسلوب.. قادة دول تعلن أنها مدنية، تحارب الأصولية وتكافح التعصب الديني، ثم في لحظة خاطفة تزايد بخطب من العيار الثقيل على خطب شيوخ التعصب الديني وهتافات كوادر الجماعات الأصولية.. إن هذا لشيء عجاب!

كلام الزعيم الليبي وقبله اتهام الرئيس اليمني مفهوم في السياق العربي الإسلامي الذي ما زال أسيرا لمقولات وصراعات الماضي، حيث لم تفلح المجتمعات العربية والمسلمة في العبور نحو الدولة المدنية وفض الاشتباك بين الدين والدولة والمجتمع، لذلك كله فلن يجد أي زعيم سياسي عربي أو مسلم صعوبة في ترويج وتسويق خطاب ديني مسيّس في الجمهور المستعد والمبرمج على التفاعل مع مثل هذه الخطابات والاستخدامات السياسية للدين.

لكن ما هو مستغرب، كيف يلجأ رئيس حكومة منتخب في دولة علمانية مدنية، وشعب من شعوب أوروبا، التي أنجزت حداثتها وغادرت صراعات الماضي، كيف يلجأ إلى استخدام هذا الابتزاز الديني لخصومه، فوصف شخص في إيطاليا أو ألمانيا أو بريطانيا بأنه من أعضاء طالبان أو «القاعدة»، يشبه أن تصف شخصا عربيا أو مسلما بأنه عضو في الحركة الصهيونية. الغرض من مثل هذه الأوصاف هو توظيف المخزون المشاعري الديني لدى الجماهير باتجاه حرق الشخص أو الجهة المستهدفة.

هل يعني هذا أن الساسة في العالم، في هذه اللحظة، يراهنون على أن أقرب وأنجع الطرق لإلغاء الخصوم هي في المزايدة في الدين؟

ما يجري أخطر سباق التسلح النووي، وإشعاعات التعصب الديني أكثر ضررا وديمومة من ضرر الإشعاعات النووية.

جربنا كيف عانينا، وما زلنا، من إشعاعات «الجهاد» الأفغاني التي خصبت من مطلع الثمانينات وما زالت تسربات المفاعل الجهادي الأفغاني تفيض على مشارق الأرض ومغاربها، ووصلت إشعاعات هذا المفاعل الأفغاني إلى برجي التجارة في نيويورك والدار البيضاء والرياض وبالي.

المشكلة أنه لا الدين انتفع بهذا الاستخدام السياسي له، ولا السياسة ورجالها قطفوا ثمارا صحية من هذا الاستخدام، فمن يقتل بسيف الدين، يقتل به هو أيضا، والشواهد أكثر من أن تحصى من أيام الخوارج إلى يومنا.

يوميا نرى في العالم العربي فتاوى تكفير وقتل، يتحمس لها شبان غاضبون، وتبقى لحظة التطبيق لهذا الواجب الشرعي الذي نصت عليه الفتوى، وغالبا تأتي هذه اللحظة على يد خفية تمتد في الظلام لتحقيق هذه الفتوى المتعصبة، ونظل كلنا نتعامل مع الحدث بشكل سطحي، محدود بدائرة الجريمة الجنائية، دون أن نوسع النظر لنرى كيف وصل الشاب لهذه المرحلة النهائية، من الذي «رش» في أجواء المجتمع بذور الكراهية وجفف نسمات التسامح، التي جعلت شابا «ناشفا» مثل هذا لا يجد سبيلا لأن يروي عطشه للخلود والتضحية والإنجاز إلا بقتل هذا أو تفجير ذاك؟

دوما نقف في منتصف الطريق، حتى نصل إلى اللحظة التي يشارك فيها الجميع باللعبة، فها هو القذافي، المليئة سجونه بأبناء الجماعات الجهادية الأصولية، يعلن الجهاد ضد دولة لا تعجبه اسمها سويسرا ويستخدم السلاح الديني؟

ليست القضية دفاعا عن سويسرا أو مصادرة لحق ليبيا أو دولة أخرى في العالم أن تقاضي أي دولة أخرى، لأي سبب من الأسباب، ولكن عبر القنوات المدنية والخطاب السياسي الخاضع لشروط اللعبة، أم القفز مباشرة إلى استعارة لسان «كافر» بالسياسة والعلاقات الدولية كلسان الجهاديين الأصوليين فهذا هو عين الغرابة، من نحارب إذن كل هذه السنوات، وما هي هوية الدول العربية؟

مؤخرا أصدر الشيخ «عبد الرحمن البراك» فتوى وصف فيها من يجيز الاختلاط بالمرتد، وهذه الفتوى ليست بريئة طبعا، فهي تأتي في ظل فتاوى ودراسات أخرى لفقهاء سعوديين يحاولون تنظيف مصطلح «الاختلاط» مما علق به من صور قبيحة بوصف أي اجتماع رجالي - نسائي، في ندوة علمية أو غيرها، محرما لأنه دياثة واستحلال للحرام، ولذلك فإنه لا جدوى من دفاع البعض عن فتوى الردة هذه بأنها مشروطة باستحلال نوع من الاختلاط لا كل الاختلاط، فواقع الحال وسياق الأحداث يعرف به المتلقي للفتوى من المقصود بها تحديدا. ماذا لو جاء شاب متحمس وطبق فتوى هذا الشيخ على كل من له اجتهاد فقهي في مسألة الاختلاط بين مجتمع الرجال والنساء وطبق حكم الردة هذا؟

من أجل ذلك فليت الدول العربية ورجال التشريع والقوانين فيها وأهل الفكر وأرباب التربية، يجتمعون على كلمة سواء في تجريم إصدار فتاوى الردة وإباحة الدم والتكفير، باعتبارها تدخلا في جرائم الكراهية والتحريض الديني وضرب السلم الاجتماعي والاستقرار الأهلي. وبسبب هذه الفوضى والانفلات في الفتوى كاد شاب مصري أن يذبح الروائي العظيم نجيب محفوظ بسكين متعصبة، في شارع من شوارع القاهرة، وبفتوى شيخ مصري!

إذا «جرمنا» هذا النوع من الفتوى وتوظيف الدين في قتل وإلغاء الخصوم، ليس فقط في العالم الإسلامي بل في العالم كله، ومن أي دين، فإننا بذلك ننقل الموضوع من إطار حرية الرأي إلى إطار القوانين المنظمة لحركة الحرية بين الأفراد داخل المجتمع، فكما أن التحريض على العنصرية أو الطائفية محرم في أغلب دول الغرب، يجب أن يكون التحريض الطائفي والديني محرما في مجتمعاتنا الهشة، وها قد رأينا «بروفة» دموية لأثر هذا التحريض الطائفي في العراق، فهل نتعظ قبل أن تسرقنا السكين؟

بسبب تركنا لهذه الفوضى الدينية واستمراء الجميع لهذه اللغة الخطيرة، بدأ من يفترض به أن يكون علاجا للداء يصبح سببا له؟!

من أجل نقاء الإيمان والدين.. ومن أجل وضوح عالم السياسة وصراعاته.. ومن أجل الحفاظ على سلامة البيئة.. كفى عبثا بالدين والدنيا.

[email protected]