أميركا المتراجعة عليها مواجهة الصين الصاعدة بشروطها

TT

على ما يبدو، تزداد المشاحنات التي تندلع من حين لآخر بين الولايات المتحدة والصين تنوعا وخطورة. مؤخرا، اعترضت الصين بقوة على آخر صفقة أسلحة أبرمتها الولايات المتحدة مع تايوان، وهددت بفرض عقوبات ضد الشركات المشاركة فيها.

وفي وقت قريب، اتهم الرئيس الأميركي باراك أوباما الصينيين بالتلاعب في العملة. وخلال منتدى دافوس، شن لاري سمرز، مدير «المجلس الاقتصادي الوطني» التابع للبيت الأبيض، هجوما غير مباشر على الصين بالإشارة إلى سياسات مركنتلية.

من ناحية أخرى، استمرت أصداء الخلاف بين بكين وواشنطن أثناء قمة كوبنهاغن للمناخ التي عقدت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وأبدت الحكومة الصينية رد فعل قويا لادعاءات شركة «غوغل» - بدعم من الإدارة الأميركية - بأن الهجمات التي تعرض لها محرك البحث التابع لها ناشئة عن الصين، معلنة أنها ستوقف تعاونها مع جهود الرقابة الحكومية على شبكة الإنترنت. في المقابل، وجهت واشنطن انتقادات متزايدة إلى عدم استعداد الصين للموافقة على فرض عقوبات ضد إيران. وأخيرا، تتهم الحكومة الصينية الإدارة الأميركية بالتدخل في شؤونها الداخلية عبر الإصرار على الاجتماع الذي عقد مؤخرا بين باراك أوباما والدلاي لاما في واشنطن.

وعلى الرغم من احتدام الخلافات وتسارعها، فإنها ليست بالجديدة، في معظمها. على سبيل المثال، جاء رد الفعل الصيني إزاء صفقة الأسلحة الأميركية - التايوانية متوقعا تماما، ويتمثل العنصر الجديد الوحيد في التهديد بالعقوبات. الملاحظ أن تايوان لا تزال تشكل الأولوية الأولى على رأس أجندة السياسة الخارجية الصينية. وبالمثل، كان رد الفعل الصيني تجاه استقبال واشنطن للدلاي لاما متوقعا.

أما تصريحات أوباما وسمرز بشأن التلاعب في العملة والمركنتلية، على الترتيب، فتتسم بطابع مختلف قليلا. وعلى الرغم من أنها ليست جديدة تماما، حيث سبق أن اتهم تيموثي غيتنر، وزير الخزانة، الصينيين بالتلاعب في العملة في يناير (كانون الثاني) 2009، فإنه منذ إطلاق غيتنر هذه التصريحات غير الموفقة، حرصت واشنطن حتى الآن على الالتزام بنهج أكثر حذرا.

تعد قضيتا «غوغل» والمناخ من القضايا الخلافية الجديدة نسبيا، لكن لا ينبغي النظر إلى هذه الخلافات باعتبارها مفاجأة، ذلك أن الصعود الصيني يعني أن بكين أصبحت مشاركة الآن على أصعدة عالمية وفي قضايا لم يكن لها دور كبير سابقا أو ربما لم يكن لها أي دور على الإطلاق، مع تحول الصين بصورة متزايدة إلى قوة عالمية لها مصالح يتعين عليها تعزيزها والدفاع عنها بمختلف أرجاء العالم، فإن من الحتمي دخولها في صراع مع الولايات المتحدة حول أعداد متنامية من القضايا.

يبدو أن العلاقات الصينية - الأميركية تدخل في مرحلة مختلفة تماما، ويتمثل التساؤل الأكبر الآن فيما إذا كان ذلك سيقود إلى تفاقم العداء بينهما لدرجة تضر على نحو خطير بالعلاقات الثنائية بينهما أو ما إذا كان يمكن الاستمرار في العلاقات الإيجابية بوجه عام بينهما على مدار العقود الثلاث الأخيرة.

الملاحظ أن هناك تغييرا آخر ضمنيا تشهده العلاقات بين البلدين، يتمثل في صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن كلا الأمرين ليس بالجديد، فإن العنصر الأخير لم يحظَ بالاعتراف به إلا منذ الأزمة المالية العالمية. وقد تعددت مظاهر تبدل موازين القوة بين الجانبين، ومنها أن الصين أصبحت أكثر ثقة في ذاتها على نحو قوي وملحوظ.

وقد تجلى ذلك في أسلوب تعبير بكين عن قلقها حيال قيمة الدولار، ما أثار التساؤلات حول إقرار عملة احتياطي جديد لحقوق السحب الخاصة. كما ألقت بكين باللوم عن الأزمة المالية العالمية على عاتق أنماط سلوك الدول الغربية، خاصة المصارف الأميركية. ويبدو هذا التحول أيضا، وإن بدرجة أقل وضوحا، في حدوث تحول في التوجهات الصينية.

إلا أنه سيكون من الخطأ القول بأن تحولا كبيرا طرأ على التوجهات الصينية نحو الولايات المتحدة. بالعكس، لا تزال الأولويات الصينية الأساسية على الصورة التي حددها دنغ زياوبنغ، حيث لا تزال الأولوية الكبرى هي النمو الاقتصادي وإنقاذ عشرات الملايين من براثن الفقر وخلق أفضل بيئة خارجية ممكنة للسعي نحو تحقيق هذا الهدف، ما يعني الاستمرار في العمل على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن الصينيين ربما يتصرفون على نحو ينم عن شعور أكبر بالثقة بالنفس، فإننا لا نرى مؤشرا قويا يوحي بتخليهم عن موقفهم السابق، بل على العكس، أثبت هذا الموقف قدرته على تحقيق نتائج طيبة لهم ولا يزال يحقق ذلك. ونظرا لأن عامل الوقت في مصلحتهم، فإن بمقدورهم التحلي بالصبر.

لكن ماذا عن الولايات المتحدة؟ في الواقع، إن انتباه واشنطن مؤخرا فقط إلى حقيقة أنها في حالة تراجع أمر يثير القلق. والواضح أنها ليست على استعداد إطلاقا للتعامل مع ما يعنيه هذا الوضع، وهو أنه لم يعد بمقدورها الاستمرار في التعامل مع الدول الأخرى على النحو الذي اعتادته سابقا، ولم يعد بإمكانها افتراض تمتعها بمكانة أعلى شأنا في تعاملاتها مع الصين، وأنه بات لزاما عليها السعي للتوصل إلى تفاهم جديد مع الصين، بدلا من توقع استمرار الأخيرة في الاضطلاع بدور ثانوي.

وقد جاء هذا الإدراك للضعف الذي لحق بواشنطن على نحو مفاجئ جعل من المتعذر تفهم معناه وتداعياته من قبل أي من النخبة المعنية بصناعة السياسات أو الرأي العام الأميركي. في الحقيقة، لا يزال الكثيرون في حالة إنكار للواقع. ومن بين الدلائل على ذلك مشاعر الغضب والإحباط التي جرى التعبير عنها على نطاق واسع داخل الدوائر الإعلامية والسياسية حيال التوجه المنطوي على شعور نسبي بالأسف والندم تجاه الصين الذي أبداه أوباما خلال زيارته للبلاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. في الحقيقة، كان أوباما على صواب من ناحيتين، الأولى: أن الولايات المتحدة بات لزاما عليها الآن تعلم التعامل مع الصين على نحو متكافئ. والثانية: ينبغي أن تحترس واشنطن لدور الصين كدائن لها.

بإيجاز يمكن القول، إن الخوف الأكبر ليس من تنامي نفوذ الصين بدرجة تجعل دورها الحالي غير مناسب لها - على الأقل على المدى القصير - وإنما من مشاعر الإحباط الأميركية إزاء النفوذ الأميركي الذي لم يعد بالقوة التي كان عليها، أو ينبغي أن يكون عليها، بجانب رفض عنيد لتفهم المواقف الصينية من منظور مغاير للمنظور الأميركي.

ويمكن أن يترتب على ذلك تداعيات بالغة الخطورة، حيث يمكن للعلاقات بين الدولتين التردي باستمرار، ما يخلف نتائج سلبية على باقي أرجاء العالم. ولن يعود مثل هذا الوضع بالفائدة على أي جهة، حيث سيزيد الصعوبات في طريق الصين وربما يبطئ نموها الاقتصادي، بينما ستتكبد الولايات المتحدة معاناة أكبر.

ويجب أن لا يخلط الفكر الأميركي بين الصين والاتحاد السوفياتي، ذلك أن الصين تعد خصما مختلفا تماما، تكمن قوته الكبرى ليس في عتاده العسكري، وإنما في نفوذه الاقتصادي، ويتمثل سلاحه الدبلوماسي ليس في استعراض القوة، وإنما في الصبر الهائل.

*مؤلف كتاب «عندما تحكم الصين العالم: نهاية العالم الغربي ومولد نظام عالمي جديد»

*خدمة «غلوبال فيو بوينت»

خاص بـ«الشرق الأوسط»