فوق سطح النقاد

TT

ازدهر النقد العربي العلمي المنهجي مع عدد غير قليل من كبار الأدباء: شوقي ضيف وإحسان عباس ورئيف خوري وطه حسين ناقدا. وقد أعجبت كثيرا بالجد والبحث عند الناقد المصري الأستاذ وديع فلسطين. ولم يعش الناقد السوري محيي الدين صبحي طويلا، لكنني كنت أتوسم فيه، إن جد قليلا، أن يرتفع بالنقد العربي إلى مستوى آخر من التجرد والبحث.

وقد تميز وديع فلسطين بسعيه إلى التعرف شخصيا على الأدباء والشعراء الذين تناولهم بالبحث والتقييم. وكان دائما عادلا ودقيقا. لم تبهره الصداقات الشخصية ولم يغل في نفسه أو قلمه جفاء. يقارن الناقد بين اثنين من كبار أعلام العصر: إبراهيم ناجي، صاحب «الأطلال»، الشاعر الذي بهر شاعرنا غازي القصيبي، وبين عبد القادر المازني، ساخر مصر. يقول عن المازني: «وهو ضئيل البنية، ضاحك المحيا، وخط الشيب شعره الناحل، فإن تكلم التمعت عيناه، له روح عالية من الفكاهة، بل السخرية، فهو يسخر من نفسه (...) ولم يكن الطربوش قد اهتز عن عرشه بعد، فكان يختار من الطرابيش أطولها لعلها تضيف سنتيمترات إلى قامته القصيرة». وأما إبراهيم ناجي فكان طبيبا يعالج الفقراء دون بدل. وذات يوم جاءه مريض شديد الاعتلال يشكو سوء الغذاء، فأعطاه جنيها يشتري به طعاما. وبعد فترة صادفه في الطريق فرآه متعافيا، فقال له ناجي متفاخرا: هل أنفقت الجنيه في شراء الطعام؟ فأجاب المريض: بل ذهبت إلى طبيب آخر، أعطيته الجنيه، فشفاني.

تناول وديع فلسطين نحو 39 كاتبا وأديبا من «أعلام عصره»، من مصر وخارجها. والقاسم المشترك في تناولها هو محبة من يكتب عنهم، ولكن دون انبهار. والقاسم الآخر أنه لا يكره أحدا ولا يفتري على أحد ولا يحاول تقليل قيمة أو مكانة أحد.

ظلت أكثرية النقاد الكبار ضمن إطار العمل الأدبي، لكنّ نقادا مثل الدكتور محيي الدين صبحي تخطوا ذلك إلى الكتابات الفكرية والأبحاث القومية. وقد تجلى في هذا المنحى كما تجلى في سواه. وأظهر قدرة فائقة في «قراءة» موضوعه، سواء كان شخصية أدبية أو مرحلة سياسية ما. وعثر دائما على تفاصيل ولطائف لم ينتبه إليها سواه. ومثل أكثر الأدباء العرب أضاع صبحي الكثير من العمر في التشرد الداخلي والخارجي، وحمل دائما منفاه إلى وطنه ووطنه إلى منفاه، وأعطى الكثيرين حقهم في المكانة الأدبية ولم يعطه حقه أو شيئا من حقه أحد. فعالم النقاد عالم حسد وغيرة وتحامل. واستطاع كبارهم أن يبقوا فوق سطح هذا العالم.