إلى رجل رحل بسلام..

TT

هذه قصة رجل لا يعرفه القارئ الكريم، كل ما يهمني فيها أن يعرف القارئ قصة وفاء أَدينُ بها لرجل رحل للتو عن دنيانا. رجل عرفته منذ وصولي إلى لندن، كان في العقد السادس من عمره، عرضت عليه العمل معي، ووافق، ومن يومها كان هو الدليل في لندن، لأطفالي ولي، من ذهابهم إلى مدرستهم وحتى عودتهم، وأثناء سفري، وانشغالي، وفي جل التفاصيل.

داهمه المرض الخبيث وتمكن منه بشكل سريع، هدّ بنيته القوية، لكنه لم ينَل من عزيمته، وخفة ظله، وإيمانه. حاول أن يصارع المرض، لكن الخبيث لم يمهله. جلست إلى جواره في المستشفى الاثنين الماضي، ظل ممسكا بيدي لساعات، وابتسامته لا تفارق محياه، متحدثا بمشقة عن ابنه الذي نذر له حياته، ومَنّ الله عليه بأن رآه يتبوأ منصبا رفيعا في أحد أشهر بنوك بريطانيا. كان يتحدث عن أن منيّته قد دنَت، وأجله قد حان، وأنه لم يبقَ له إلا رحمة ربه.

كان يناقش وصيته، وما يريده من ابنه بعد وفاته، وهو مبتسم كعادته.. يتحدث عن الموت كأنه يصف لحظة خروجه سليما معافى! خذلتني العبرة، ضحك قائلا لابنه: «أوه.. هل شاهدت ذلك؟ أتحدى إذا كنت قد رأيت رجلا يبكي مرؤوسه»!

تعرفت عليه وقد زهد بحياة الشهرة والصخب، هجر عالم الموسيقى والأضواء بعد أن لمع نجمه أواخر الثمانينات. قرر أن يرمي كل ذلك خلفه، ويعيش حياة أكثر هدوءا، سخرها لتربية ابنه. لم أكن أعرف ذلك يوم التقيته. كنت أفاجأ دائما عندما أرى كثيرا من أقرانه في السن الذين لا يعرفهم شخصيا، وهم يبادرونه بالسلام عندما يرونه في الشارع. سألته ذات يوم عن ذلك فروى لي قصته، وكيف أنه قرر ترك عالم الموسيقى، لأنه أراد أن يكون أبا، ورجلا يعيش بهدوء.

عرفته طوال ستة أعوام، وكنت كل يوم أكتشف معدنه الوفي النقي. بعد وفاته كنت أحاول أن أشرح لأبنائي ما حدث له، وكانت الصدمة كبيرة عليهم، فقد فوجئت أنه كان يتحدث بانتظام إلى ابني حتى قبل دخول المستشفى بيوم تقريبا، وهو منهك ومتعب.. لم أصدق، سألت ابني عبد العزيز: «كيف كنت تتحدث إليه؟ الرجل كان شديد الإعياء». قال لي: «كنا متفقَين.. أنا أتحدث، وهو يسمع»!

هذا بعض من سجايا ذلك الرجل، وبعض من لطيف أفعاله، وكرمه الذي نادرا ما تجده في هذه البلاد. قصته معي هي قصة الوفاء الذي نسمع به، ونقرأ عنه، ونادرا ما نراه. رجل حفظ السر، وصان العهد، وكان معي ومع أبنائي، لحظة بلحظة، وقصة بقصة، وكأني أعرفه عمرا بأكمله. ستة أعوام مضت، وكأنها البارحة.

رحل عن عالمنا إلى عالم الغفور الرحيم، مخلّفا في الذاكرة أياما حلوة، مليئة بقصص الوفاء، والكرم، وطيب المعدن. قال لي في آخر مرة رأيته فيها في المستشفى: «لا أريد أن أقاسي بالعلاج الكيماوي، فدائما ما كنت أطلب من ربي أن تنتهي حياتي كما عشتها بسلام، وهدوء». نام يومها، وسلم الروح إلى بارئها بكل سلام وهدوء.

[email protected]