صورة الابن أبا

TT

في الخليج مجالس يومية كثيرة. عاداتها واحدة. قهوتها واحدة. تمورها واحدة. تحياتها واحدة. وطقوسها واحدة. والمجلس هو الملتقى. إذا كنت صديقا حميما تأتي. وإذا كنت صديقا عاديا تأتي. وإذا كنت قادما للسلام والتحية تأتي وتلقي السلام. فالمجلس يعفيك من أحكام الاستقبال في البيوت ويعفي أصدقاءك من لزومياتها، ويبقي العلاقات على موداتها.

مجلس الشيخ نهيان بن مبارك (وزير التعليم العالي) في أبوظبي كان مختلفا. فقبل سنوات عدة أصيب والده، الشيخ مبارك، في حادث سيارة أخذ منه القدرة على النطق، ولم يترك له سوى طاقة ضئيلة على الحركة بمساعدة مساعد. كل يوم، الخامسة بعد الظهر، كان الشيخ مبارك يدخل مجلس متكئا على كتف ابنه نهيان. ولم يكن قادرا على الجلوس بنفسه فكان نهيان هو الذي يضعه على مقعده.

وفي البيت كان نهيان، لا الخدم ولا الممرضين، هو الذي يساعد الأب على الاستحمام وعلى تناول الطعام وعلى ارتداء ملابسه وعلى كل بديهيات الحياة التي تحولت إلى صعوبات وآلام. وإذ يتصدر المجلس كانت للشيخ مبارك لغة خاصة يستقبل فيها رفاقه وأصدقاءه وزواره. لغة ليس فيها كلام وإنما ابتسامة واحدة وصوت يرحب فيه بالقادمين، كل حسب نوعية الصداقة ودرجاتها.

وكانت للشيخ صاحب البسمة الدائمة والأليمة طريقة عجيبة في السؤال عنك وفي القول إنه افتقدك أو في العتب لأنه لم يرك منذ فترة. لغة جميلة مليئة بالهمهمة الحانية والود المتفجر والعينين الحزينتين لأن النطق صار عصيا مثل دمع أبي فراس.

كان الشيخ مبارك العلامة الفارقة في المجالس. والفرق الآخر في مجلس الشيخ نهيان، نوعية الضيوف شبه الدائمين. صلاح أبو زيد أول وزير إعلام أردني وأحد مؤسسي الإعلام العربي. ومحمد المصمودي وزير إعلام الحبيب بورقيبة. ومحمد سعيد الصحاف أشهر وآخر وزير إعلام عراقي. وجبريل الرجوب. وعرب كثيرون من كل مكان وزمان. وغالبا هناك ضيوف تربويون أجانب، من إنجلترا أو فرنسا أو الهند.

وبرغم هذا التجمع المتعدد فلا أحاديث سياسية ولا جدال. مودات مودات. وهمهمة الشيخ مبارك، «محدثا» الأصدقاء، سائلا، بلغته الصامتة، عن عائلاتهم وأبنائهم. وسائلا أصدقاءه عن أعمالهم. والجميع يفهمون عليه. بل الجميع يتحدثون بلغته: إشارات في الهواء ورسوم بالأيدي ودق على الصدور، بمعنى شكرا لك أيها الرجل الطيب.

بغياب الشيخ مبارك، غابت الصورة التي يكون فيها الابن أبا وأما. وغابت لغة الهمهمة المليئة ودا ودفئا.