من بلد التطرف إلى بلد الاعتدال

TT

العراق بلد التطرف وبريطانيا بلد الاعتدال. أنا ولدت في الأول ومت في الثاني. وهذا جوابي على نورة العتبي من السعودية في تساؤلها: كيف جاء هذا المخلوق المؤمن بغاندي والكاره للعنف من بلد العنف والدماء؟ قالت العرب يا سيدتي إن الشعوب على دين ملوكها. هكذا تعلم العراقيون هذا الإرهاب من صدام حسين، ولكنني أضيف فأقول: والأبناء ينشأون على دين أبيهم. لم يدخل والدي في أي نزاع مع أحد طيلة حياته ولا رفع يده على أي منا، نحن أولاده السبعة. وأخذت ذلك منه. أنا كذلك لم أرفع يدي على ولديّ نائل وآدم. ما يفعله الأب يتعلمه الابن. العراق بلد التطرف، أخرج للعالم صدام حسين من طرف، وخالد القشطيني من طرف. وكل ذلك رغم أن كلينا تربينا في نفس الحارة، محلة سوق الجديد من صوب الكرخ في بغداد، أكثر محلات بغداد في رجعيتها ومحافظتها ودمويتها. لاحظ والدي ذلك فهجر وإيانا منها في سن مبكرة. مرت سنوات وهجرت أنا بدوري بلد العنف بكامله إلى بلد الاعتدال، بريطانيا. وهناك اكتشفت أن معظم مشكلات عالمنا العربي تعود إلى إيماننا بالقوة ونحن لا نمتك القوة أساسا.

وكما فعلت، فعل السيد منذر عبد الرحمن، فهجر العراق إلى النرويج حيث أعجب بشمائل أهلها وأفضال حكومتها إلى الحد الذي جعله يكتب إلينا فيقول: «سأدافع عن النرويج بكل غالٍ ونفيس». إذا تعرضت تلك المملكة لأي خطر. هذا في الواقع ما يشعر به معظم المغتربين العرب والمسلمين. فبعد حياة الذل والمهانة، البطالة والحرمان، الاضطهاد والقمع، يجد المغترب نفسه فجأة في محيط يعامله كإنسان وليس كحيوان يساق بالعصا. هكذا كان شعوري الشخصي بعد أيام قليلة من وصولي إلى بريطانيا، وهو ما يحدوني إلى الانضمام إلى قول السيد منذر. أنا أيضا سأدافع عن بريطانيا بكل غالٍ ونفيس، باستثناء حمل السلاح.

وهذا من أسرار تفوق الإسرائيليين علينا. فما الذي يدافع عنه المواطن العربي؟ الجوع والبطالة، الظلم والإهمال، القمع والاستبداد، الكبت والحرمان؟ بهر الروس العالم كله في دفاعهم المستميت عن موسكو وستالينغراد بما أوحى إلى الجواهري أن يسجل ذلك في قصيدة عصماء قال فيها:

تلكم التربة لا ما سميت وطنا ينبت جوعا وعراء

إذا ذكرنا الجواهري بستالينغراد، فأنا أذكر القراء بشاليط. جندي إسرائيلي بسيط استطاعت حماس أن تخطفه وتحبسه. مرت أعوام على ذلك وإسرائيل لا تنفك تقيم الدنيا وتقعدها وتوجه كل نيرانها على غزة ودبلوماسياتها ومفاوضاتها من أجل هذا الهدف الأوحد، وهو سلامة وحرية شاليط، هذا العسكري الواحد. لا يتعرض يهودي في أي مكان من العالم إلى أي عسف أو ظلم إلا وتهبّ العاصفة من أجله. ونجلس نحن العرب في لندن فينصح أحدنا الآخر عندما يقع في مشكلة: «احذر من مراجعة سفارتك! المشكلة تصير عشرين مشكلة!».