وعي الناخب بين صدقية الوعود ومساءلة السلطة

TT

تعرف العراقيون بعد التغيير على ممارسة سياسية تُدعى الديمقراطية، بعد أن أمضوا عقودا من الزمن تحت نقمة الحزب الواحد، وعبر ماكينة النظام الشمولي الرهيبة، سُخّر الفن، والأدب، والدين، والإبداع، لمسخ العراقي، وتحويله من فرد إلى رعية، وحدد له قوميته، فصار الأيزيدي عربيّا والكردي «بعصيّا» والمندائي عربيّا.

شعب اعتاد كتم أنفاسه، مهما بلغت معاناته وتعمقت جراحاته واعتصرته المصائب.

فجأة، ومن دون أي مقدمات، ينتقل إلى فوضى الحرية المنفلتة من ضغوطات الكبت المزمن والوراثي، وما هي إلا أيام بعد التغيير حتى انتشرت عشرات الفضائيات، والصحون اللاقطة، وانتشرت أحدث أنواع الجوّال وخدماته غطت طول جغرافية الوطن وعرضها وفي متناول الجميع فضلا عن الإنترنت.. بالتزامن مع تشكل المئات من الأحزاب والكتل السياسية وآلاف من منظمات المجتمع المدني، تحت مسميات وغايات مختلفة منها طائفية، وقومية، وعلمانية، وليبرالية. وتشكل البرلمان وكتب الدستور وتوزعت السلطات عبر التوافق (المحاصصة).

ولكن جميع هذه الممارسات والتمظهرات الديمقراطية، لا تعني أن ثمة انسجاما قد حصل بين الذي يحدث في البنية الاجتماعية من تفاعلات والشكل الديمقراطي الفوقي لها، إذ أنَّى للعراقي أن يمتلك وعيا ديمقراطيا بعد أن رضع الاستبداد لقرون من الزمن؟ وخير مثال على ذلك الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة السليمانية بين حركة التغيير والاتحاد الوطني والتي أدت إلى جرح بعض الأشخاص لم تتناسب مع ثقافة المواطن الكردي المعروفة بها، بينما تتسم مدينة أربيل ودهوك بنظام دعائي حضاري ومن دون أي خروقات على الرغم من أن مدينة أربيل عاصمة ويشتد فيها الصراع بين الأحزاب، ولكن كانت ولا تزال من أهدأ المدن، وإنني كمواطنة وشاهدة عيان رأيت بأم عيني مسيرة التغيير والاتحاد الإسلامي المكونتين من مئات السيارات ورافعين شعاراتهم ويتجولون في معظم الشوارع الرئيسية من دون أن يلاقوا أي استهزاء أو كلمة مسيئة من قبل المواطنين وأجهزة السلطة. بينما رأيت في القنوات الكردية ما لاقته مسيرة سيارات الحزب الديمقراطي الكردستاني في مدينة السليمانية من ضرب بالأحجار والعصي وتحطيم السيارات التي تحمل جماعة الحزب الديمقراطي وجرح العديد منهم علما أن الديمقراطي له تحالف استراتيجي مع الاتحاد الوطني وكان محايدا منذ البداية وحتى الآن في الصراع بين الاتحاد وحركة التغيير، فلماذا هذا الاستهزاء بمشاعر المواطنين؟ ولولا جهود الرئيس مسعود البارزاني للسيطرة على الصراع بين الاتحاد والتغيير لتحول الصراع إلى مأساة، وما زاد الطين بلة ادعاءات حركة التغيير بتسمية البيشمركة ميليشيا، نتعجب كيف يمكن لحركة التغيير أن تصف البيشمركة بهذا الوصف علما بأن حركة التغيير هم يعتبرون أنفسهم من البيشمركة القدماء وخلصها، فكيف يصفون أنفسهم بالميليشيا؟! فكلمة البيشمركة ذاتها مهمة لدى الأكراد، البيشمركة الذي حارب في أشد اللحظات خطورة من دون مساعدة أي دولة ولم يستطع حتى ألد أعداء الكرد أن يدرجوهم ضمن قائمة الإرهاب الذي تتسم به الكثير من المليشيات في العالم، لأن البيشمركة كان يقاتل منذ البدء كجيش نظامي صغير ولم يرتكب يوما خرقا أو قتل مدنيا أو فجر قنبلة بين الأبرياء في أي مدينة عراقية. فكان يستمد قوته من الله ومن الشعب ويتخذ الجبل سندا له، فلا يجوز بعد كل هذه التضحيات أن نسميه ميليشيا. إن حركة التغيير بهذا الأمر قد يخسر الكثير من جمهوره ولا سيما قوات البيشمركة، وكان لخطاب الرئيس مسعود البارزاني بهذا الشأن عندما قال: «افعلوا ما تشاءون من أعمال انتخابية وصوّتوا لأي جهة تحبونها، ولكن لا يمكن السماح لأي شخص كان المساس بالبيشمركة أو وصفه بالميليشيا» أثر بارز على المواطن الكردي والبيشمركة نفسه.

فهنا يظهر لنا أن الناخب حقا يفتقر إلى ثقافة الانتخابات ومساءلة السلطة اللتين تعدان من أهم ركائز الديمقراطية، وهذه الانتخابات لن تغير من حال العراق لا بجولة واحدة ولا بعشرات الجولات ما لم يحاسبها الشعب ويتابع صوته.

إذن بعد هذا الكم من المشكلات والعراقيل التي ذكرناها آنفا، كيف سيتشكل وعي حقوقي لدى الناخب العراقي، يؤهله لاختيار مرشحه وفق قناعات وتقاليد ديمقراطية، كما حدث في إيران عند ملاحقة الناخب الإيراني لصوته بالتظاهر؟ فعلى الرغم من ضغط الرأي العام بالنأي عن الطائفية ولجوء جميع الأحزاب والكتل السياسية إلى تطعيم كتلها بالتنوع الإثني والطائفي والعرقي، فإن لون الطائفة والقومية ما زال واضحا، مما يعني أن الحكومة المقبلة ستكون أيضا توافقية (محاصصة) التفسير العراقي للديمقراطية التوافقية، وإلا فسيفسر من قِبل الأطراف الخاسرة بأنه شكل من استبداد الطائفة.

وما نسمعه من وعود لن يتحقق منه شيء، ما لم نتابع صوتنا ونطالب بحقوقنا ونتطلع إلى حياة الشعوب العصرية والديمقراطية، فلنحتجّ ونقُل الحقيقة مهما كان الثمن لأن المآسي التي نعيشها ليست السلطة المسؤول الأوحد عنها بل الشعب بسكوته وخضوعه، لأن الحكومات في الشرق لن تتغير لا بجولة واحدة ولا بعشرات الجولات ما لم يحاسبها الشعب.

* كاتبة وأكاديمية من إقليم كردستان العراق