السيرة العطرة البهية

TT

الحياة مدرسة مليئة بالحكم والدروس والعبر، يحصل عليها من يفتح عينيه وينصت جيدا ويتدبر فيما يدور من حوله، وكم يخسر من يسير في دروب هذه الدنيا من دون أن يفعل ذلك، فتصبح أيامه بلا معاني ولياليه لا طعم لها. وقد من الله علي بأن التقي بسيدة هي «بركة» أسرتها وعميدتها، إيمانها فطري بلا تصنع، يخرج من القلب ليصل إلى القلب، حريصة على الوصل والوصال، كذلك بلا تصنع، تطبق علميا فكرة صلة الرحم، وتمارس عمليا البر بالأهل والأحباب والخير للمحتاج، جادت بخيرها الذي رزقها الله، فبنت مسجدا وسمته «جامع الصالحين»، وطبعت كتيبات مليئة بالأذكار والأدعية والإجابات على الأسئلة الدارجة التي تخطر على بال عامة الناس وسمت المجموعة «منهج الصالحين» و«روضة الصالحين» و«دعاء الصالحين»، ووهبت أجرها وثوابها لروح ابنتها التي رحلت عن دنيانا في سن صغيرة، تاركة سيرة عطرة ودعاء متواصلا لها بالرحمة والمغفرة. طوال عمرها كانت المربية والناصحة والسند والحنان والدفء لأهلها جميعا، وخصوصا لزوجها وذريتها وأحفادها، فهي تحولت إلى قلب الأسرة، تغدق عليهم المحبة، وحتى صرامتها لا تخلو من المودة التي تستحوذ على قلوب من معها. إنها سيدة من زمن جميل. كل من يعرفها من أهلها مرتبط بها وجدانيا بعلاقة أكثر من خاصة، وكل واحدة لها قصة أو قصص معها.

هذه السيدة العظيمة تعيش وأسرتها ابتلاء عظيما، ابتلاء يصيب الكبار مقاما والكبار قيمة، ابتلاء لا يمكن وصفه إلا بكل «شين»، بكلمات كالغدر والخيانة والخسة والنذالة والحقارة، وخصوصا أنه كان من إنسان قريب، وعرفت كيف تعاملت مع الصدمة وتوجهت بالدعاء إلى ربها وزادت جرعات عمل الخير ولم تقصر في شأن المحتاج، وآثرت على نفسها وقدمت للغير، وكانت شكواها دائما لله، أو مع تنهيدة تخرج وهي تصيد السمك، وهو هوايتها التي تحرص على الاستمرار في متابعتها، وحافظت على لياقتها الذهنية وعلى برامجها، وعلى مواصلة الأسرة والأهل دونما انقطاع، وشكلت لهم جميعا «الغراء» العاطفي الذي يبقيهم سويا كأقرب ما يكون، وابتسامتها هي الوهج المطمئن، كما أن لكلماتها وقع البلسم الشافي على الجراح المؤلمة. القصة كلها مليئة بالرموز والمعاني والدروس، فبين القهر والغضب من جهة، وبين الإيمان والأمل من جهة أخرى تكون مساحة العيش والتعلق. إنه تحدي الإيمان بصورة خاصة، وامتحان التعلق بشكل مميز. وقد يكون المعجز في التفكير هو قدرة الإنسان المؤمن في أن يرى في القبح جمالا، وليس هناك قبح أكثر من الخيانة والغدر، ولكن الإيمان يتطلب منا رؤية الخير في كل شيء، لأن هذا هو حال المؤمن، وأن يكون الشيء الذي نكرهه ليس القصة كلها، لأننا عسى أن نكره شيئا وهو خير لنا، كما يعلمنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. والضرر الكبير لا يعالج بحبوب الأسبرين ولا بالتدليك الموضعي، ولكنه خبيث كالسرطان، لا بد أن «يخرج» بأكمله من الجسد الطاهر الذي جاء دخيلا عليه فلوثه وسممه حتى أمرضه، والسرطان لا بد أن يعالج «بالكيماوي»، بحرق كامل حتى يتم القضاء على هذا «الشر». وإذا عرفنا يقينا أنه «وما النصر إلا من عند الله»، كذلك يجب أن يكون الإيمان كاملا بأنه لا شيء يترك سدى، كما يعلمنا الله عز وجل «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار». هذه الأم العظيمة والسيدة الجليلة تصبر وتحتسب بإيمان ويقين، والله حتما لن يخذل صبرها ولن يضيع الحب والعطاء والإيمان واليقين سدى. تواصل في صمت تعليم أسرتها وأهلها ومحبيها، بإيمان عميق بأن الله لن يخذلهم، وهي صادقة في ذلك، وما تفاعلي في كلماتي البسيطة هذه إلا لإيماني التام بأن غدا لناظره قريب، وأن الله يمهل ولا يهمل. كما أن لاسمك منك نصيبا سيعيد الله البهاء، لأنه، عز وجل، حرم الظلم على نفسه فكيف يرضاه!، حاشا لله. لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين وحسبي الله ونعم الوكيل.

[email protected]