التفاوض الذي صار أصعب من الحرب!

TT

التقى وزراء الخارجية العرب يوم الأربعاء 3/3/2010 لمتابعة جهود التسوية تحت مظلة المبادرة العربية للسلام. إنما الواقع، وتحت هذا العنوان العريض، جرت مناقشة العرض الأميركي على الفلسطينيين العودة إلى تفاوض غير مباشر الطرف الوسيط فيه هو الولايات المتحدة. فقد تعذر على السلطة الفلسطينية العودة إلى التفاوض المباشر إلا بتحقق شرطين: وقف الاستيطان تماما، ووضوح المرجعية (أي أن يكون الهدف إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة). واستجابت الحكومة الإسرائيلية لوقف جزئي للاستيطان خارج القدس، وما كان هناك وضوح بشأن الشرط الثاني، باستثناء القول إن كل الموضوعات يمكن أن تناقش! وما وجدت السلطة الفلسطينية في ذلك سببا كافيا للرضا باستئناف المفاوضات، رغم الضمانات الأميركية للطرفين. وعندما تكاثرت عليها النصائح بالقبول بالبديل الذي طرحته الولايات المتحدة خروجا من المأزق الذي حاق بالتفاوض المباشر، ورأت السلطة أن تعيد المسألة للعرب ليروا رأيهم في قبول العرض الأميركي أو رفضه والحديث في البدائل والخيارات. ورغم أن هذه الإحالة من الناحية المبدئية أمر جيد؛ فإنه ما كان من المتوقع أن يحصل إجماع عربي على أي خيار، سواء أكان بالموافقة أم بالرفض. فهناك دول عربية لا ترى أملا في المدى القريب إلا في التفاوض، وترى في الخيارات الأخرى مغامرات غير محسوبة ولا محسومة النتائج. وإنما المقصود بتلك «الخيارات» ليس إسرائيل، بل المزيد من تقسيم الدول العربية وتقاسمها، واستخدام الضغوط على مجتمعاتها وأنظمتها من أجل الابتزاز والمزايدات مع الولايات المتحدة. وهناك دول عربية لا ترى أملا أو مجالا للتفاوض، بسبب الرفض والإجرام الإسرائيليين، والتهاون الأميركي والأوروبي والخضوع للضغوط والمصالح الصهيونية. والدول التي تحمل هذا التوجه الرافض تنقسم إلى قسمين: قسم يرى الابتعاد والدعم من بعيد، وانتظار تغير الظروف. وقسم رأى الانضمام إلى الجبهة المقاومة التي شكلتها إيران، وقال الرئيس محمود أحمدي نجاد: إنها مكونة من إيران والعراق وسورية ولبنان. بيد أن أطرافا عربية متبصرة رأت أن القبول أو الرفض كلاهما وجهان لعملة واحدة. فالقبول يعني التفاوض من أجل التفاوض. والرفض يعني انتصارا للتطرف على جانبي المشهد، وهو حري أن يدفع باتجاه الحرب والخراب، ولا يشكل أي دفع للقضية الفلسطينية إلى الأمام. ولذلك، فقد اقترح هؤلاء الطلب من الولايات المتحدة، الوسيط في المفاوضات، أن تكون الأولوية لبحث موضوعين: حدود عام 1967، والإعلان عن القبول الآن بالدولة الفلسطينية ضمن تلك الحدود. ويرى هؤلاء أن هذا الأمر إن تم وقبلته الولايات المتحدة، فيمكن الدخول في التفاوض على أساس منه أو عدمه، حسبما تكون ردة فعل الجانب الإسرائيلي. وإذا حصل ذلك يصبح هناك أساس للتفاؤل ليس بقيام الدولة الفلسطينية وحسب؛ بل وبإمكان استعادة سورية للجولان المحتل عام 1967.

لقد أدى إلى هذا المشهد المتفجر تطوران بالمنطقة في الشهور الأخيرة؛ الأول: فشل الولايات المتحدة في إقناع إسرائيل بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، واتجاه حكومة اليمين الإسرائيلي لزيادة الاستيطان والتهديد بالحرب على إيران وحزب الله. والثاني: زيادة التوتر بين إيران والمجتمع الدولي بسبب ملفها النووي، والاتجاه إلى زيادة العقوبات عليها للمرة الرابعة. أما الحكومة الإسرائيلية فإنها لا تريد التفاوض لاختلافها مع الحكومة السابقة بشأن القدس والمستوطنات واللاجئين. ففي الملفات الثلاثة لا يقبل اليمين أي تنازل؛ في حين سوف يجري البدء بها عند بدء التفاوض بحسب خارطة الطريق. ويضيف الإسرائيليون لذلك أن الفلسطينيين منقسمون، ولا يستطيع محمود عباس تنفيذ ما يتعهد به. كما أن في لبنان المجاور عشرات ألوف الصواريخ الموجهة للداخل الإسرائيلي، وإيران تهدد إسرائيل بالنووي القادم وبالصواريخ البعيدة المدى، فكيف يكون التنازل والتخلي عن الضمانات والاحتياطات، في ظل هذه الظروف.

هكذا تصاعد حديث الحرب خلال الشهور الثلاثة الماضية، ومن جانب الطرفين الإيراني - حزب الله، والحكومة الإسرائيلية. أما الطرف الإيراني فيرى في الحرب أو التهديد بها مكسبا له، وسواء وقعت أم لم تقع. وهو ينظر في ذلك إلى ردود الفعل الغربية، التي لا تزال تتردد أمام الحرب. وما دام الأمر كذلك، فقد يعين ذلك إيران في التفاوض على النووي والصاروخي، وعلى الدور ليس غرب الفرات وحسب؛ بل وباتجاه أفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز، وقبل ذلك وبعده في الخليج والمحيط الهندي ومضيق هرمز والبحر الأحمر، وإمدادات النفط والغاز. وقد أرى الإيراني الغربيين (والعرب) ماذا يستطيع أن يفعل إن لم يصغوا لمطالبه في النووي وغيره. إذ إلى جانب حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي (وهي الحركات الثورية التي قسمت لبنان وفلسطين)، أثار الحوثيين باليمن، وبضربة واحدة استعادة سورية إلى جانبه أو إلى رهانه بعد عنعنات سورية استمرت لأكثر من عامين، ووجوه غزل ومقاربات شارك فيها الأتراك والفرنسيون، وامتدت إلى تفاوض غير مباشر، وإلى إخماد الثوران على النظام السوري والرئيس السوري في لبنان.

وأما الإسرائيلي؛ فإن تركيب حكومته لا يتلاءم والتفاوض على التنازل عن أي شبر من الأرض. ثم هو لا يتصور تنازلا في مسألة القدس أو اللاجئين ( وربما الحدود). وهو ماض في استعمار الضفة الغربية واستيطانها. وبالأمس وعلى مشارف محاولات التفاوض، امتدت يده إلى الحرم الإبراهيمي بالخليل، وإلى مسجد بلال ببيت لحم. وقد استطاع بالمماحكات مع أوباما ومبعوثه جورج ميتشل طوال عام 2009 أن يثبط من عزائم الأميركيين، وأن يدفع بأوباما لتناسي كل وعوده. وقد قال قبل شهر إن النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي أكثر تعقيدا مما كان يحسب ويقدر! ثم إنه في الشهرين الأخيرين قدم اعتبارات مكافحة إيران، ولو بالقوة، على جهود إطلاق التفاوض. ومع ذلك فإن الإسرائيلي لا يزال يرى في الحرب الصغيرة أو الكبيرة فائدة له. فهو من جهة يأمل في استعادة الهيبة بعد النتائج غير المرضية لحرب عام 2006 ضد حزب الله. ثم إنه يأمل من وراء الحرب أن يغير الموضوع، وأن يخفف عنه الضغوط.

ولذلك؛ فهناك جهد كبير ومتزايد من جانب إيران وحزب الله من جهة، ومن جانب إسرائيل من جهة أخرى، للحيلولة دون العودة للتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمساع ووساطة أميركية. وقد حالت حرب عام 2006 دون تجدد التفاوض مع الفلسطينيين، كما حالت حرب غزة أواخر عام 2008 دون استمرار التفاوض غير المباشر بين سورية وإسرائيل. فالحكومة اليمينية في إسرائيل تفضل الحرب حتى لا تضطر لوقف الاستيطان وللتراجع في مسألة القدس، وللتسليم ببقاء صواريخ حزب الله - وإيران تفضل الحرب حتى لا يتركز الجهد على منعها من استكمال برنامجها النووي، ولإرغام الغرب على الاعتراف بالدور.

ولا شك أن العرب الكبار والأميركيين والأوروبيين والروس، يفضلون التفاوض. لكن أحدا من هؤلاء ما عادت عنده أوهام حول الإمكانيات والقدرات. فالتفاوض يعني من جهة القابلية للتنازل. وهذا ما لا يتوافر لدى الإسرائيليين والإيرانيين. أما الإسرائيليون فللأسباب التي ذكرناها، وأما الإيرانيون فلأن البرامج والأدوار ارتبطت لديهم في السنوات قبل عام 2006 بالشراكة مع الولايات المتحدة، وبعد عام 2006 بإثارة الحروب والنزاعات لتحقيق الأهداف نفسها ما دامت الولايات المتحدة قد أعرضت عن شراكاتها السابقة. وقد قال الأمين العام لحزب الله قبل أيام إن المشهد الدمشقي (يعني لقاءه مع الرئيس الإيراني والرئيس السوري بدمشق) كان ردا على الرسائل الأميركية لسورية للقطع مع إيران. والواقع أن المشهد المذكور هو أيضا استباق لاجتماع وزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة. ويضاف إلى المشهد الدمشقي لهذه الناحية، المشهد الطهراني - إذا صح التعبير - وهو مشهد الحركات الثورية الإسلامية الفلسطينية مجتمعة بطهران تحت إشراف خامنئي ونجاد! وهكذا التقى وزراء الخارجية العرب بالقاهرة لبحث إمكانيات التفاوض أو التفكير في سبل إطلاقه بهذه الصيغة الضعيفة والمترددة، بسبب التعنت الإسرائيلي، والتراخي الأميركي والأوروبي. ويجدون أنفسهم وقد غادرتهم سورية مؤقتا على الأقل. كما يجدون أن الطرفين الإسرائيلي والإيراني يستسهلان الحرب، وكل منهما على يقين من الانتصار فيها إن وقعت.

كان الاستراتيجي الألماني كلاوزفتز يعتبر الحرب استمرارا للسياسة والدبلوماسية بأسلوب أكثر سخونة. أما العسكري البريطاني ليدل هارت فقد رأى أن الحرب تنشب عندما تتوقف السياسة والدبلوماسية. وفي حالتنا الراهنة؛ فإن إسرائيل وإيران تجعلان الحرب المدمرة أسهل أو أقل صعوبة من السياسة والتفاوض!