الزعامة والذكاء

TT

قلة من الشخصيات اللبنانية تجاوزت أفق البلد الصغير إلى الأفق العربي وشاركت في الرؤية القومية والقرار القومي. والمؤسف أن التاريخ عندما يبتعد يأخذ معه الكثير من الصور الكبرى. ولعل أبرز من لعب أدوارا عربية من اللبنانيين، كان رياض الصلح، أول رئيس وزراء استقلالي. وبسبب مكانته عند العرب استطاع أن يعجل بالاستقلال ثم يلعب دورا في إنشاء الجامعة العربية، ودورا مهما في القضية الفلسطينية. وقبل سنوات كتب مدير عام الخارجية الإسرائيلية في «الهيرالد تريبيون» أن رياض الصلح قال للملك عبد الله الأول «دعنا لا نفاوض ولا نستسلم فنحن قادرون على إغراقهم بحبوب البرتقال».

لم يعط رياض الصلح حقه في كتب التاريخ. ولذلك يأتي كتاب باتريك سيل الصادر الآن عملا شديد الأهمية في المكتبة السياسية العربية. وقد أعطي الكاتب البريطاني جميع الوثائق والأوراق التي في حوزة العائلة، فأنشأ منها سيرة شبه كاملة لإحدى ألمع الشخصيات في تاريخ لبنان المعاصر. غير أن ثمة ملامح في الزعيم الاستقلالي لا يمكن أن ينتبه لها سوى كاتب لبناني، إما من الذين عرفوا رياض، أو من الذين عاشوا في مناخه. وتلك هي معالم الظرف واللماحة والارتقاء السياسي والاجتماعي، وهي صفات ورثتها كريماته، وخصوصا كبيرتهن، الراحلة علياء. وكانت «ست الستات علياء رياض الصلح» موضوع كتاب مشوق أصدره أخيرا الزميل شكري نصر الله.

ويحكي الكتاب قصة وريثة سياسية كبرى جعلت من صالونها الأدبي والفكري والسياسي شيئا يشبه تلك الصالونات التي أقامتها نبيلات فرنسا في العصور الملكية والنابوليونية. وشغلت علياء الصلح لبنان سنوات عندما كتبت في «النهار» مقالات افتتاحية شجاعة ضد الراحل فؤاد شهاب وحكم ضباط المكتب الثاني. وكادت في مراحل كثيرة تصبح رئيسة وزراء لبنان، لكن تعقيدات الحرب حالت دون ذلك. ونفت نفسها إلى نيويورك ثم إلى باريس.. «لكي أخدم بلدي بقدر ما أستطيع». وقد شغلت نفسها وشغلت الدنيا بقضية لبنان. واستمرت قرابة آل الصلح من العائلات العربية الكبرى. فشقيقتها الأميرة منى، هي أم الوليد بن طلال. وشقيقتها لمياء، زوجة الراحل مولاي عبد الله، شقيق الحسن الثاني. وكانت هي أيضا على صداقات سياسية مع جمال عبد الناصر والأمير سلطان بن عبد العزيز، ومع خصوم سياسيين مثل الرئيس الراحل حافظ الأسد والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.

«رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» مثل جميع كتب باتريك سيل، يتميز بالتوثيق والجهد، وبمعرفة سيل الشديدة العمق بالتاريخ العربي المعاصر، بدءا من كتابه «الصراع من أجل سورية» الذي صدر منتصف الستينات.