تعظيم كلمة التوحيد.. بالبراءة من (تكفير) قائلها

TT

(أداة الطرح) الحسابية، إذا استخدمت في الحكم على (إسلام) المسلمين، فإن النتيجة ستهبط من خانة الآحاد أو المجاميع الصحيحة إلى (خانة الصفر): هذا مسلم عاص فلنطرحه من الحساب، وهذا مسلم زان، وثالث شارب خمر، ورابع آكل ربا، وخامس نادى بفكرة قد تؤدي إلى الفساد فهو كافر، فلنطرح هؤلاء جميعا من الحساب.. وهذا منزع غير واقعي من جهة، إذ المسلمون - في العصور كافة - لم يتطهروا بالكلية من هذه المعاصي والآثام.. ثم هو - من جهة أخرى - منزع مضاد - مضادة كاملة - لهدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاكتراث (الكمي) بمجموع المسلمين فقد قال النبي: «احصوا لي كل من تلفظ بالإسلام».. ومن مفاهيم هذا الحديث الإحصائي العظيم:

أ-: حسبان كل مسلم من أمة الإسلام.

ب-: إعلاء قيمة (التلفظ) بلا إله إلا الله محمد رسول الله.

ونقفّي على هذا المفهوم الجميل الجليل (مفهوم العد والإحصاء الكمي لمن نطق بالإسلام): بمفهوم آخر جميل عضد وهو أن الإسلام (منهج جذب) لا (منهج طرد)، ولذلك جاء أمر الرسول «احصوا لي - وفي رواية اكتبوا لي - كل من تلفظ بالإسلام من الناس».. فالكم العددي معتبر في الإسلام وذلك لأهداف عديدة منها: معرفة من هو على الإسلام.. وتقرير الأحكام وفق ذلك.. وأن يجري الاستيثاق من الرصيد البشري الموجود: ابتغاء توظيفه في البناء المدني، وفي خطط الدفاع.

والسطور الآنفة مدخل إلى المقصد الأعظم، فقد بُعث النبي لتحقيق مقاصد عظمى، أولها وأعلاها - بإطلاق - مقصد إقناع الناس بالدخول في الإسلام.. ومن هنا، فإن الدعوة الصحيحة الحقة في كل عصر - من ثم - هي إدخال الناس في الإسلام عبر الإقناع الحر - بالحجة القوية والأسلوب الرفيق اللين -.. أو تثبيتهم على الإسلام إذا دخلوا فيه - لا إخراجهم منه - !!!.. فإذا تعجل امرؤ ما إلى تكفير مسلم لم يكن من الداعين إلى الله على بصيرة، كما أُمر الرسول - وأتباعه - بذلك: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي».. وهناك ما هو أظلم وأخوف من ذلك، بمعنى أن المتسرع بالتكفير يُخشى عليه المصير نفسه - كجزاء عاجل من جنس الحكم - فقد قال النبي: «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حارت عليه»، أي ارتدت عليه دعواه التي ادعاها على أخيه.

إن النبي بُعث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور: «الر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».. فبأي فقه، وأي عقل، ولأي هدف وغاية يُنكّس هذا المنهج ويقلب فيصبح مناط الأمر إخراج الناس من النور إلى الظلمات عن طريق تكفيرهم؟!

في وضوح - مثل السنا - وبعبارة علمية محررة بدقة وأمانة وورع وبحرص بالغ على بقاء المسلم في دائرة الإسلام، قال الإمام أحمد بن حنبل: «ولا يُكفر أحد من أهل التوحيد وإن عملوا الكبائر، ومن مات من أهل القبلة موحدا نصلي عليه ونستغفر له ولا نحجب عنه الاستغفار، ومن زعم أنه كافر (أي مرتكب الكبيرة) فقد زعم أن آدم كافر، وأن إخوة يوسف حين كذبوا أباهم كفار». وهذا هو الفقه الحق والسديد والرشيد، وهو فقه مستمد من الينابيع العلمية الرائقة: الكتاب والسنة:

أولا: الكتاب.. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».. وسبب نزول الآية: أن رجلا من بني سليم يرعى غنما له، مر بنفر من أصحاب النبي فسلم عليهم، فقالوا لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه فنزلت الآية بالكف عن التأويل والتسرع في التكفير واستباحة الدم المعصوم.

ثانيا: السنة:

أ- قال أسامة بن زيد: لحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا من جهينة، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا أسامة قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟!! قال أسامة فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.. وذلك من شدة غضب الرسول عليه، وتأنيبه له.

ب- أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر أن جبريل - عليه السلام - قال له: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة».. فامتلأ أبو ذر عجبا من ذلك وقال للنبي: وإن زنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر؟!.. فقال النبي: «وإن زنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر» فكرر أبو ذر تعجبه ثلاثا، فكرر النبي رده ثلاثا وقال في المرة الثالثة: «وإن زنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر».

ج- بَعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب داعيا هاديا فقال عليّ: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال النبي: «انفذ على رسلك، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم».. وقال الحافظ بن حجر - في شرح الحديث-: «يؤخذ منه أن تأليف الكافر حتى يسلم أولى من قتله».. ولقد لحظ البخاري المعنى العميق اللطيف للحديث فاختار له عنوانا دقيقا مناسبا جميلا - في موضع آخر -. هذا العنوان هو (باب فضل من أسلم على يديه رجل).. والدلالة المبتغاة - هاهنا - هي: أن (الفرحة) بهداية إنسان إلى الإسلام: أمتع وأروح وأعظم وأندى من مباهج الدنيا وغنائمها جميعا.. يتعزز هذا المعنى بمفهوم الأمر بالتسبيح في سورة النصر: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا».. فمن مفاهيم الأمر بالتسبيح - عند دخول الناس في دين الإسلام -: أن المسلم يمتلئ غبطة وابتهاجا حين يدخل الناس في الإسلام بدليل أن هذا الشعور بالغبطة (نعمة): اقتضت الشكر لله، إذ التسبيح شكر من الشكر.. ويترتب على ذلك: نفي ما يضاده: أي أن لا ينشرح قلب المسلم ولا يفرح بتكفير مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.

د- أورد البخاري تحت عنوان (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة). فعن عمر بن الخطاب أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأُتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي: «لا لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله».. إن الرجل كان يحب مجالس الرسول، وهو وإن عجز عن مغالبة هواه في شرب الخمر إلا أن قلبه مطويّ على حب الله ورسوله، وهو معنى لَحَظَه النبي، ولم يلحظه المتعجل باللعن.

وبمناسبة شرب الخمر، سمعنا أحدهم في بعض الفضائيات يفتي بقتل شارب الخمر «!!!!».. وهذه جهالة في الفتوى.. ففي شرح الحديث الآنف يقول ابن حجر - في الفتح -: «وفيه ما يدل على نسخ الأمر بقتل شارب الخمر، إذا تكر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتي به أكثر من خمسين مرة»!!.. وقال الصنعاني - في سبل السلام -: «وقال الشافعي هذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم.. يريد نسخ القتل».

نعم.. يخطئ المسلم، بل يسرف على نفسه في الأخطاء والآثام.. ولكن لماذا تضيق دائرة الأوصاف حتى لا يبقى إلا وصف الكفر وحده؟.. لماذا القفز إلى (الاغتيال المعنوي الكامل)؟.. فوصف المسلم بالكفر ليس مجرد سب أو قذف عاديين، بل هو قتل معنوي ينقل المسلم من دائرة الإيمان التي يحبها - على ما كان معه من معصية - إلى دائرة الكفر التي يكرهها: «وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ».

إن التكفير: افتراء على الله ورسوله.. وفتنة للناس في دينهم.. وتقنيط لهم من رحمة الله الواسعة.. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة بمثلها أو أغفِر. ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا. ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة. ومن لقيني لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة».. هذه الرحمة الإلهية الغامرة الواسعة لماذا تضيّق بالتكفير بالذنب؟.. فبدعة التكفير بالذنوب والكبائر يقول بها أقوام ليسوا من أهل السنة والجماعة.. فلماذا تُستعار بدع أولئك لتكفير مسلمين ليسوا كفارا؟!

إن من يعظّم كلمة لا إله إلا الله، يوطن نفسه أبدا على البراءة من تكفير قائلها.