مخالفة «غياب» لرئيس الحكومة

TT

حررت السلطة الرابعة البريطانية مخالفة مرور ديمقراطية لرئيس الوزراء غوردن براون لكسره تقليدا برلمانيا مقدسا هذا الأسبوع، وهو التخلف عن حضور جلسة الاستجواب في مجلس العموم، المنعقدة دائما ظهر كل أربعاء.

جدول الأعمال اليومي البرلماني (كتيب من عشرات الصفحات) ذكر أن رئيس الحكومة سيحضر مراسم الاستقبال الرسمي لرئيس اتحاد جنوب أفريقيا جيكوب زوما، بينما تتولى هاريت هارمون زعيمة المجلس (وهي ترجمة حرفية لـ«Leader of The house» والمقصود بها رئيسة كتلة الأغلبية) - وهو منصب وزاري - ستجيب على الأسئلة.

وقبلها بيومين والصحافة تخضع رقم 10 داوننغ ستريت (مكتب رئيس الوزارة) للاستجواب الحاد في اللقاءين اليوميين لمستشاري رئيس الوزراء والمكتب الصحافي والمتحدث باسمه.

فسؤالنا الأول دائما هو: «ما هو جدول رئيس الوزراء اليوم؟». فالصحافة، كممثل للرأي العام، تسلط الضوء على ما يفعله رئيس الحكومة لأنه موظف عند الأمة يتقاضى أجرا منها. واكتشاف أنه «يزوغ» من استجواب ممثلي صاحب العمل، أي الشعب، هو أمر جد خطير.

خلفية الموضوع هو تنوع زيارات رؤساء الدول. فزيارة الدولة تلبية لدعوة أرسلتها جلالة الملكة، رأس الدولة والكومنولث، لرئيس دولة لزيارة المملكة المتحدة. الزيارة مرة واحدة لا تتكرر في حياة أي رئيس دولة، حتى ولو أعيد انتخابه بعد فترة انقطاع (سبق زوما الرئيسان نيلسون مانديلا ثم تومبو إمبيكي).

الزيارة الرسمية تتم بدعوة من الحكومة البريطانية، وهي غير الدولة الثابتة التي ترأسها الملكة بعكس الحكومة التي تتبدل بالانتخاب. والزيارات الرسمية لزعيم أو رئيس وزراء تتكرر بطلب أحد الطرفين، ويكون في استقبال الضيف رئيس الوزراء.

وهناك زيارات عمل لا يشترط فيها حضور رئيس الوزراء، بل وزير، وأحيانا الأمير تشارلز ولي العهد إذا كان الزائر ملكيا. أما الزيارات الخاصة فلا يتطلب البروتوكول استقبال أي مسؤول للضيف - ربما شخصيا بحكم صداقة قديمة - أو أحد من الخارجية من باب اللياقة.

كانت هذه الخلفية في ذاكرتنا في اللقاء اليومي في داوننغ ستريت يوم الاثنين عندما ذكر المتحدث باسم رئيس الوزراء نية براون التغيب عن جلسة الاستجواب، ليحضر استقبال الملكة بحرس الشرف لضيفها الأفريقي في الوقت نفسه الأربعاء. وبما أن الرئيس زوما كان ضيفا على الدولة، أي على قصر باكنغهام، حيث أقام ثلاثة أيام طوال الزيارة كما هو البروتوكول المعتاد لمئات السنين، فإن حضور رئيس الوزراء براون، من وجهة نظرنا، كان مجرد تحصيل حاصل من أجل مجاملة بلد رائد في أفريقيا، حيث يوجد ثقل الكومنولث.

تساءل بعضنا: وأين نائب رئيس الوزراء ليقف بدله في الاستقبال؟

واتهم البعض الآخر براون باحتقار البرلمان والاستهتار بأعلى سلطة تمثل الأمة من أجل مجاملة زوما. وقال بعض ثالث: إن جشع «البزنس» بتوقيع عقود تجارية مع الوفد الزائر طغى على الديمقراطية. وسأل آخرون: لماذا لم يؤجل موعد تفتيش حرس الشرف؟

وهل يصدق ترتيب القصر برنامج زيارة دولة من دون التنسيق مع داوننغ ستريت، عبر مجلس وسط مكون من لوردات وكبار موظفي الدولة المستقلين خصيصا لهذه المناسبات؟ بل إن الحكومة هي التي تقترح أصلا دعوة رئيس دولة أخرى فور توليه الرئاسة عقب الانتخابات، صعوده إلى العرش في الأنظمة الملكية في البلدان الصديقة.

الأمر قد يبدو بسيطا ومجرد سوء تنظيم (وهو أمر غير مسبوق في البروتوكولات البريطانية، فعندما يتعلق الأمر بأي نشاط ملكي تجري الأمور في مواعيدها بالدقيقة والثانية الواحدة).

الصحافة تراه أمرا جد خطير، خصوصا أن أغلبية الحكومة في البرلمان مررت الحكاية من دون اعتراضات. فالصحافة هنا تقوم بدور الرقيب الأخير، باعتبارها ممثل الرأي العام، بعد أن «فوت» البرلمان الحكاية.

وقد تعمدت إشراك قراء «الشرق الأوسط» الأعزاء في الأمر، الذي قد يبدو سطحيا بعيدا عنهم في بريطانيا، من أجل شرح آلية عمل دقيقة، خصوصا أن غالبية القراء تدعو إلى استبدال الأنظمة الاستبدادية والديكتاتوريات العسكرية بأنظمة نيابية. والصحافة، بأنواعها، اليوم أداة تغيير مهمة في بلدانهم، خصوصا مع فساد أكثرية نظم التعليم.

العلاقة بين الصحافة والسلطتين التشريعية (البرلمان بمجلسيه) والتنفيذية، ليست ودية، وليست معادية (وإن كان بعض الساسة يقولون لنا، نصف مازحين، إنهم يحسدون بعض بلدان أفريقيا والشرق الأوسط التي «تطوع فيها الصحافة لخدمة الأهداف الوطنية»)، وإنما هي علاقة احترام فاتر وحذر.

صحيح أننا نتبادل النوادر والفكاهات، وغالبا ما نمزح مع سكرتارية رئيس الوزراء، على حسابه طبعا، في اللقاءين اليوميين، لكن ليس هناك ثقة مفرطة، أو متبادلة.

الحكومة، وخصوصا المتحدثين باسمها، يعرفون أن الصحافة تريد أن تنفذ إلى الأسرار ولو من ثقب إبرة. واتفاق الجنتلمان - الذي أصبح تقليدا عمره أجيال - هو أن كل ما يدور في اللقاءين هو «خلفية معلومات للبرنامج اليومي للحكومة»، وليس كلاما رسميا يمكن نشره على لسان شخص ما إلا إذا سبق بـ«ويقول المتحدث باسم رئيس الوزراء كذا وكذا» من دون ذكر اسمه.

من جانبنا، نحن الصحافيين، لا نصدق أي كلام يقوله المتحدث أو السكرتارية، بل نبحث مع سبق الإصرار على ما يناقضه، ونعتمد على مصادر أخرى، لأن الشك في كلام الحكومة والساسة هو أساس العمل الصحافي.

الصحافة تقف للحكومة بالمرصاد، لتعرف الأخيرة أن التراخي أو محاولة خداع ممثلي الأمة في البرلمان أو نقض الوعود الانتخابية أو إهدار المال العام في مشاريع ناقصة الدراسة، ثمنه فضيحة مدوية في جميع الصحف بلا استثناء، (فالمجموعة الصحافية البرلمانية مكونة من 40 صحافيا يحضرون اللقاءين، ووراءهم 180 صحافيا في البرلمان منذ الصباح حتى منتصف الليل من جميع الصحف، قومية ومحلية وشبكات الإذاعة والتلفزيون).

الفضيحة ستصل إلى القراء والمستمعين والمشاهدين في الدوائر الانتخابية، فالفضيحة تعني فقدان المقعد البرلماني في الانتخابات. وهذا لا يعني فقدان العمال للحكم فحسب، بل فقدان النائب للوظيفة التي «يأكل منها عيشا».

دور الصحافة هنا ليس نابعا من دافع وطني أو أخلاقي أو وعي الصحافي بدوره في المجتمع وغيرها من الشعارات الآيديولوجية، وإنما من طبيعة ملكية الصحف كشركات صناعية يبحث حملة أسهمها عن الربح، ودون المصداقية، تكون السلعة مغشوشة، فيبحث المستهلك عنها عند المنافسين (13 صحيفة قومية وأكثر من 150 محلية مع الإذاعات).

مراقبة ما تفعله الحكومة وتفسير الصحافي لها يتوقعه القارئ من الصحف القومية (قارئ الصحف المحلية يبحث عما يفعله نائب دائرته)، وهي سلعة في شكل خدمة يجدها على الصفحات السياسية التي تحرر في البرلمان.

فالمهنية لا الوطنية هي الدافع الأول للصحافي البرلماني في مشاكسته للحكومة.