المعاني الكلية بين السياسة والإبداع الفني

TT

البلاغة والصياغات الأدبية العالية في التصريحات والخطب السياسية، مريحة للنفس ومثيرة للعواطف، غير أنها في ذات الوقت تضعف قدرات العقل النقدية إلى الدرجة التي تجعل فيها الناس مؤهلة لقبول الأكاذيب الكبرى. سأعطيك عدة أمثلة قريبة وبعيدة للتدليل على ذلك. جاء في خطاب التنحي للرئيس جمال عبد الناصر الذي حرص كاتبه على شحنه بطاقة هائلة من البلاغة والعاطفة، أنه سيتخلى عن منصبه ليعود جنديا في صفوف الجماهير. الواقع أنه لا يوجد على الأرض ما يسمى بصفوف الجماهير، وإذا افترضنا جدلا ما يسمى بالجماهير، فهي لا تتكون من صفوف، هناك العاملون في الحقول والمصانع والوظائف الإدارية في الحكومة والقطاع الخاص، و.. و.. الخ الخ.. فما هي تلك الوظيفة أو العمل الذي سيلتحق به زعيم سابق للأمة العربية؟

حتى الآن لم يهتم أحد بتحليل هذا الخطاب الذي يلخص في بلاغة آليات التفكير المشترك بين القائد الثوري الفرد والجماعة - التي تسمى في أدبيات الحكم الشمولي، الجماهير أو الشعب - تلك الآلية التي تعتمد على الكذب المشترك، سأكذب عليكم وأنتم ستتقبلون الكذبة بصدر رحب وعقل أرحب وذلك من خلال كلمات، ظاهرها مختلف تماما عن محتواها، سأعلن التخلي عن منصبي كرئيس وزعيم، وفي الوقت نفسه سأقوم بتحريضكم على عدم السماح لي بذلك، هنا تتجلى عبقرية كاتب الخطاب الذي يعي جيدا أن «الجماهير» تم تدريبها منذ سنوات طويلة على الترحيب بالأكاذيب الراقدة تحت الكلمات التي تبدو ظاهريا صادقة.

السياسة تتعامل مع المعنى المحدد، والهروب إلى الأمام باستخدام المعاني الكلية - الجماهير، الشعب - يكون الهدف منه في الغالب هو الإفلات من مسؤولية استخدام المعاني المحددة، وهو سلوك يتسم بانعدام روح المسؤولية فضلا عن أنه لا أخلاقي. اسمح لي بالانتقال إلى مشهد مسرحي أرى أنه يحدد الفرق بين المعنى الكلي الذي أحذر من استخدامه والمعنى المحدد، في مسرحية «بكالوريوس في حكم الشعوب»، يقوم طلبة الصف الأول في مدرسة ثانوية عسكرية بعمل انقلاب عسكري يستولون فيه على السلطة في بلد صحراوي من بلاد العالم الثالث، ربما تكون هذه هي أكثر حكومات التاريخ براءة لأن أفرادها غادروا مرحلة الطفولة منذ شهور قليلة. يفاجأ رئيس الانقلاب بعدد كبير من البرقيات المؤيدة للثورة في صباح اليوم التالي، فيسأل زميله المسؤول عن الإعلام: من أرسل هذه البرقيات؟

فيرد عليه وهو يفخم حروف الكلمة: الشعب..

فيعود ليسأل في إصرار: من منهم بالتحديد؟؟.. هل ذهب الشعب إلى مكتب التلغراف وأرسل هذه البرقيات؟ إنني أرى برقية من اتحاد عمال الغابات.. هل في بلدنا غابات؟.. هناك أيضا برقية من نقابة عمال الحديد والصلب.. هل لدينا صناعة حديد وصلب؟

وهنا يشرح له زميله ما حدث وهو يضحك في طفولة: أخطر سلاح في العصر الحديث هو الإعلام.. لقد وجدت شخصا يجلس تحت شجرة فطلبت منه أن يوقع على البرقية باعتبار هذه الشجرة نواة لمشروع الغابات الذي سنقيمه في الخطة الخمسية القادمة.. نعم، سيكون لدينا صناعة غابات.. وهذه البرقية باعتبار ما سيكون.. أما عمال الحديد والصلب، فقد تعبت في البحث إلى أن وجدت حدادا عجوزا تحمس للفكرة ووقع البرقية.. كما ترى.. أنا لم أكذب ولم أتجمل.. الشعب هو الذي أرسل برقيات التأييد.

في تصوري، كل استخدام لمعنى كلي وراءه شخص مستفيد وعاجز أيضا عن الوصول إلى مشروع محدد يعبر عنه بألفاظ محددة. وفي تصوري أيضا، كل مشروع يستند إلى أساس عريض من المعاني الكلية، يصبح الإعلان عن فشله مسألة وقت. حتى الآن عرضت عليك نماذج سهلة الفهم، دعنا نصعد درجة على سلم التعقيد. تفجرت في الأيام الأخيرة في مصر قضية فساد جديدة تناولها على الفور إعلام الفضائيات الجائع لكل جديد ومثير. وهي قضية نواب «قرارات العلاج على نفقة الدولة» اتضح أن نواب «الشعب» حصلوا على مئات إن لم يكن آلاف من قرارات العلاج والأجهزة الطبية لعلاج «الشعب» وفاحت رائحة الفساد والسمسرة بعد تفجير القضية، وفي حوار مع أحد النواب قالت له المذيعة: أنت لم تحصل على قرارات من أجل أبناء دائرتك الانتخابية فقط.. بل لأشخاص من دوائر أخرى ومدن ومراكز أخرى.. هل لديك تفسير لذلك؟

فأجابها في غضب وكبرياء: أنا لست نائبا عن دائرتي فقط.. أنا نائب عن الشعب كله.

وهنا سكتت المذيعة وانتقلت إلى نقطة أخرى، هي لم تكن جاهزة لكي تشرح له معنى أن يكون نائبا عن الشعب. كان الخطأ منذ البداية هو استخدام المعنى الكلي (الشعب) لا بد أن المسؤول عن فتح مغارة علي بابا العلاجية فكر على النحو التالي، هؤلاء هم نواب الشعب، ولا بد أن نساعدهم في تقديم خدمات لهذا الشعب، لكي يكون صحيح الجسد عالي المزاج.. افتح يا سمسم.

وتمر الأعوام قبل أن يكتشف سمسم الذي سبق له أن تلقى الأمر بفتح المغارة من صاحب الأمر، أن المغارة التي كانت ممتلئة بالذهب والياقوت والمرجان والأموال والأدوية والمستشفيات والأجهزة الطبية، أصبحت خاوية على عروشها فكان لا بد من تفجير القضية. نائب آخر في برنامج آخر قالت له المذيعة: لقد عرفنا أنك أعدت 400 قرار علاج لوزارة الصحة.. 400 قرار لم تستخدم، كيف حدث ذلك؟

فأجابها إجابة أراها مهمة للغاية: بعد القيل والقال وإثارة المشاكل حول قرارات العلاج، عدت إلى مكتبي وبحثت في الأدراج فوجدت هذه القرارات المعتمدة التي لم تستخدم، فأعدتها إلى وزارة الصحة..

فسألته: 400 قرار لم يتسلمها أصحابها.. لماذا؟

فأجاب: «جايز المريض مات.. جايز خف لوحده.. جايز نسي.. جايز أهمل.. أهو ما جاش وخلاص».

هنا سنتوقف لحظة لنثبت شيئا جديدا، استخدام المعنى الكلي لا يفقد المتلقي فقط قدراته العقلية النقدية التي تجعله قادرا على التمييز، بل يصيب قائله الذي يظن نفسه ذكيا، بقدر من البلاهة تجعله عاجزا عن فهم ما يقول، الرجل هنا يحاول إفهام المشاهدين أنه من الممكن لمريض في حاجة ماسة لعلاج متخصص أن ينسى أو يهمل في الحصول على قرار علاجه الذي صدر بالفعل. لو أن من فكر فعلا أقصد بالتحديد في المرضى، وكانت لديه الرغبة حقا في علاجهم، لما حدثت هذه الكارثة، وكان سيحصر الأمر في وزارة الصحة والمستشفيات والأطباء فقط تحت رقابة الأجهزة الإدارية المكلفة بذلك. المعاني الكلية مكانها الطبيعي هو الإبداع الفني لأنه بطبيعته لا يريد خداع أحد، لذلك سنجد أن أعظم استخدام لكلمة الشعب، كان في قصيدة أبي القاسم الشابي الجميلة:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر

كل هذه المعاني الكلية جميلة في مكانها، غير أننا عندما نتعامل معها بوصفها حقائق سياسية أو قواعد ملزمة، سنواجه عشرات الإشكاليات، ومنها أن الشعوب جميعا تريد الحياة طول الوقت، كما أنه لا يوجد في العقل أو التاريخ ما يشير إلى وقت محدد تريد فيه الشعوب الحياة، هذا بفرض أنها كانت ترفضها أو تكرهها من قبل، أما الليل فهو يأتي في موعده كما تحدده علوم الفلك، وأما القيود فلا تنكسر وحدها بل بفعل فاعل يكره القيود ويرى أنها معطلة لمسيرة الوطن. وهو يكسرها عن طريق الدستور والقوانين ومؤسسات الدولة الساهرة عليها. وعندما يتوقف حصولنا على الحرية على كرم المحبين والمحسنين، فهذا فقط ما تراه أم كلثوم في مقولتها الشهيرة:

أعطني حريتي أطلق يديا

إنني أعطيت ما استبقيت شيا

أن تطلب من الآخرين أن يعطوك حريتك وأن يطلقوا يديك، هذا يحدث في الحب والأشعار فقط، غير أن السياسة لا تعرف ذلك.. لا تذهب إلى خصومك السياسيين وتطلب منهم أن يعدلوا الدستور من أجلك.. لا تطلب من الجالسين على الأريكة - أي أريكة - أن يقوموا من فوقها وأن يزيلوا التراب من عليها لكي تجلس أنت.. لا أحد على وجه الأرض يتمتع بهذا النوع من الكرم.