«حوار وطني».. فقد معناه وجدواه ومبرّراته

TT

«هل من المستحيل قيام سلطة ليست قوية إلى درجة تقمع معها شعبها، ولا ضعيفة إلى درجة تمنعها من الدفاع عن وجودها؟».

(إبراهام لنكولن)

خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي قامت الاستراتيجية الأوروبية لحزب المحافظين البريطاني - الحاكم يومذاك - بعرقلة قيام «الولايات المتحدة الأوروبية»، تجسيدا لتوجهات يمين الحزب المؤمن بالعلاقات الخاصة مع واشنطن. ويومذاك، كانت واشنطن تحت حكم اليمين الجمهوري بقيادة رونالد ريغان، ثم نائبه جورج بوش الأب، وكان شغلها الشاغل التعجيل بـ«سقوط إمبراطورية الشر».. أي الاتحاد السوفياتي السابق.

تمثل التنسيق والتفاهم بين لندن وواشنطن في العمل على تسريع توسع ما غدا «الاتحاد الأوروبي»، لضمان اضعاف نفوذ النواة الأوروبية الصلبة المؤمنة بأوروبا قوية ذات حد أدنى من الاستقلال السياسي، والتخفيف من تأثيرها. وحقا نشطت بريطانيا في قيادة عملية التوسيع، ثم تسريعها، بعد انهيار الكتلة الشرقية عام 1989 وخروج دول أوروبا الشرقية، بل وحتى الاتحاد السوفياتي، من تحت عباءة موسكو. وبالنتيجة، نجحت الخطة، وضعف نفوذ «النواة الصلبة» الأساسية التي كانت تشكلها ألمانيا الغربية وفرنسا ودول البينيلوكس (هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ)، وإلى حد ما إيطاليا.

مع احترام فوارق الأحجام والأوزان والتطلّعات، يمكن إسقاط خطة «التوسيع بهدف الاضعاف» هذه بأفقها العالمي على الواقع البائس لبلد عربي صغير يكاد يتحول إلى «دولة فاشلة».. هو لبنان.

فلبنان موعود هذا الأسبوع بعودة ساسته إلى «الحوار الوطني»، بعد طول انتظار، وفي أعقاب سلسلة من التغيرات والتداعيات المحلية والإقليمية والدولية. غير أن هذا الحوار، المأمول منه نظريا، أن يركز على قضية واحدة لا غير، هي «السياسة الدفاعية»، ينطلق هذه المرة من أدنى مستوى ممكن من التوقعات الشعبية، بعدما كان المطلب الأول لغالبية اللبنانيين.

مما ساهم في خفض مستوى التوقعات الأسماء المختارة للتحاور باسم اللبنانيين وتوزيع الحصص «التمثيلية» بين الطوائف والقوى السياسية، ثم التبريرات التي أعطيت لاعتبارات الاختيار والتوزيع. ولا سيما لجهة حصر القوة التمثيلية عند بعض الطوائف بقواها الفاعلة، مقابل شرذمة الآخرين لتخفيف أوزانهم وإضعاف أدوارهم.. وهو ما يشبه إضعاف تأثير ألمانيا أو فرنسا بإعطاء دولة صغيرة مثل استونيا «حق الفيتو» داخل «الاتحاد الأوروبي».

كيف حصل ما حصل؟

ثمة عدد من الأسباب المهمة، أبرزها أن الطرف الأقوى - قتاليا وديموغرافيا وماليا - على الطاولة، لا يؤمن أصلا بأي «حوار» لا يشرع احتفاظه بسلاحه. وقد تأكد هذا - إن كان ثمة حاجة إلى تأكيده – بـ«قمة دمشق» الأخيرة بين الرئيسين الإيراني والسوري وأمين عام حزب الله في لبنان. بل، وجرى تبرير مدى أهمية المحافظة على هذا السلاح بطريقة غير مباشرة من إسرائيل نفسها، التي ما فتئت «تتفنن» في ابتكار أساليب لإقناع اللبنانيين بقبول منطق حزب الله عبر تهديداتها الدائمة، ليس لـ«الحزب» أو للقوى التي تموله وتدعمه، بل للمواطن اللبناني العادي الذي تهدده في رزقه عن طريق تعمدها استهداف حكوماته والبنى التحتية لبلده في مسلسلاتها العدوانية عليه.

سبب آخر لا يقل أهمية، هو أن دمشق عادت إلى الساحة اللبنانية من الباب الواسع، بمباركة القوى نفسها التي كانت قد باركت ودعمت دخولها إلى الساحة اللبنانية عام 1976. وبخلاف التغير «الظاهري» في شكل التعامل الدمشقي مع لبنان، كيانا ودولة وشعبا وساسة، فإن دمشق عادت إلى التعامل مع لبنان من منطلقين مألوفين، هما:

الأول: أن لبنان ليس دولة مستقلة، بل كيان تنعدم فيه مقومات الوجود والاستقلال سلخ سلخا عن «الوطن الأم»، ولا بد من أعادته إليه بشتى الوسائل. وفي رأس هذه الوسائل الإثبات يوميا أنه كيان عشائري وطائفي مفتت بلا هوية ولا قواسم مشتركة.

والثاني: استنادا إلى المنطلق الأول، يستحيل التعامل مع لبنان وفق معايير التعامل «من دولة إلى دولة»، بل يجب التلاعب بخيوطه عبر «عملاء» و«تابعين أمنيين». وهذا ما يفسر اليوم بالاحتجاب شبه الدائم للسفير السوري عن النشاط السياسي في بيروت، مقابل الضجيج والتحرك المحمومين لدمى النظام الأمني الذي حكم لبنان رسميا وفعليا حتى مفصل 14 فبراير (شباط) 2005. وأحدثها التحركات المنسقة «أوركستراليا» للوفود الزاحفة إلى طرابلس «للتضامن» مع الرئيس عمر كرامي (رئيس حكومة 14 فبراير 2005) في المعركة التي بادر كرامي – هذه المرة – إلى افتعالها مع الدكتور سمير جعجع، رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية. فكرامي الذي يرمي جعجع بـ«الإجرام»، موسميا، لـ«قتله» أخاه الرئيس رشيد كرامي، كان قد عرض يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 1990 مقعدا وزاريا على جعجع.. بعد جريمة الاغتيال!.

المهم، أن كرامي، حسب كلام الحاج حسين خليل المستشار السياسي للسيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، الذي زاره متضامنا، كان يجب أن يكون بين أطراف «الحوار» مع غيره من رؤساء الوزارات السابقين. غير أن المضحك المبكي هنا، تصور الواحد منا أن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان يمكن أن يكون قد أقدم على تسمية من دعاهم إلى المشاركة في «الحوار» من دون استئناس ما بالجهات المعنية.

ولا بد أن القوى المستأنس برأيها، أقنعت الرئيس سليمان بمنطق توزيع تمثيل المسلمين السنة على أربعة ممثلين عنهم، مقابل تمثيل الشيعة - الذين يعادلونهم من حيث التعداد السكاني - بنصف هذا العدد، أي بممثلين اثنين فقط.. وهو نفس حجم تمثيل الدروز!.

ترى لو كانت مقاعد «طاولة الحوار» مقاعد وزارية أو برلمانية هل كان مثل هذا الأمر ليستوي؟ أم أن واقع ميزان القوى اللبناني الذي فرضته «اتفاقية الدوحة» بات يقوم على تمتع الثقل الشيعي في تجمّع «8 آذار» بحصريتين مركزيتين وحيويتين تحددان سياسة لبنان ومصيره، هما حصرية تمثيل الشيعة وحصرية السلاح؟.

قمة أحمدي نجاد - الأسد - نصر الله أكدت هذا الأمر بصورة ما عادت تقبل الجدل. فلبنان، حقا، غدا، وحتى إشعار آخر، جزءا لا يتجزأ من حالة رهان إقليمي كبير سينتظر تكامله حصيلة الانتخابات العراقية وخاتمة «سيناريو» التهويد الكامل في الأراضي الفلسطينية. وفيما يتعلق بالوضع الداخلي اللبناني، المطلوب أن ينحصر دورا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في الشؤون البروتوكولية وتصريف الأعمال ومهر المراسيم والوثائق الرسمية بتواقيعهم، تماما كخلفاء أواخر العصر العباسي، الذين ما عاد لهم من مظاهر السلطة الشرعية سوى الخطابة بأسمائهم على منابر المساجد.

ويحدثونك بعد كل هذا عن «حوار» و.. «وطني»!!.