هي حرة وأنا حرة

TT

تسببت امرأة فرنسية، لمحتها مصادفة على شاطئ رملي، في «خناقة حامية» بيني وبين صديقة أكن لها احتراما. كنا، أنا وصديقتي، نقضي عطلة في الجنوب الفرنسي حين لمحت المرأة المذكورة وهي مستلقية على رمال الشاطئ تحت أشعة الشمس.

ولاحظت أنها غطت رأسها، وجانبا من وجهها بقبعة، بينما عرت صدرها وثدييها تماما ابتغاء للون البرنزي الذي تعشقه الأوروبيات.

في الحقيقة، اعتراني مزيج من الدهشة والاستياء، فتفوهت بعبارة عبرت عن حنقي. وهالني أن صديقتي لم يعجبها كلامي، وقالت لي إن المرأة لا يهمها استيائي أو استياء غيري، لأنها تمارس حقا يكفله لها العرف والقانون في بلدها، وليس عليّ أو على غيري أن ينظر إليها إن لم يعجبه ما يرى.

اختلفنا. تصايحنا. وانتهى الجدل من دون أن تقنع إحدانا الأخرى بوجهة نظرها. ولفنا الصمت الذي زج بي إلى ذكرى ماضية أشعرتني بقدر مساو من الدهشة والغضب. فقد قرأت يوما أن امرأة طردت من متجر «هارودز» الشهير، لأنها جلست في المقهى الملحق بالمتجر وأرضعت طفلها، فأثار المشهد حفيظة زبائن المتجر، ومن ثم استدعوا موظف الأمن وطلبوا منه أن يتدخل بحيث لا تخدش فعلة المرضعة حياء الناس. وبذلك أمرت المرأة إما أن تكف عن إرضاع طفلها أو تغادر المتجر.

وهممت بإعادة فتح النقاش مع صديقتي لإطلاعها على تلك القصة لعلها تقتنع بأن العرف الذي يعتبر عارية الثدي حرة، ويصنف إرضاع الطفل كفعل فاضح، عرف مغرض ومشوه وسفيه. ولكني لم أفعل، ربما لأن صوتا داخليا همس لي بأنني فعلا أسرف في الانفعال فيما يتعلق بهذا الأمر.

استعرضت بذاكرتي حجم انفعالي، فوجدت أنني أحمل في دواخلي جبلا من الاستياء، قاعدته ثابتة لا تتزحزح، استغرق تكوينه عمرا إلى أن جلست على قمته تلك الفرنسية المستلقية على شاطئ. فتلك فنانة عربية شابة قضت نحبها بعد أن حقنت ثدييها بالسليكون لكي تبرز من استدارتهما ما يسمح به العرف إياه في وطنها. وتلك مطربة أمتعت الملايين بصوت ذهبي نادرا ما يتكرر أنهت حياتها وفنها بإرادتها حين حذت الحذو نفسه، وغيرهما مئات تغريهن جراحات التكبير والتصغير وما بينهما بالهجوم على الصدر والوجه والخصر والردفين باسم الصبا والجمال، وبتواطؤ مع عرف خبيث خبيث.

وفي النهاية هي حرة وأنا حرة، ولكل امرئ ما نوى.

وفي الحقيقة، لا يمكنني أن أكتب الكلمة الأخيرة في هذا السياق من دون أن أقص عليكم أحدث فصل من فصول هذه القصة. فأنا، وعلى الرغم من رفضي المطلق لتدخل الجراحة التجميلية في الجسم إلا بهدف العلاج، قرأت خبرا أقنعني بأن ما بين الأبيض والأسود ظلال كثيرة لا يمكن إغفالها. فقد قرأت أن شابا أميركيا اقتحم مستشفى وأطلق الرصاص عشوائيا على الناس بهدف قتل أكبر عدد ممكن، ثم أطلق النار على نفسه، ولم ينج من رصاص القاتل إلا امرأة واحدة سقطت مغشيا عليها، بعد أن استقرت رصاصة في صدرها. ولكنها نجت من الموت لا لسبب إلا لأنها كانت قد خضعت لجراحة تجميلية لتكبير صدرها، بحيث استقرت أكياس السليكون بداخلهما. وحين انطلق رصاص المعتدي، أصابتها رصاصة في أحد الثديين، واستقرت داخل السليكون ولم تخترق الجسم فتحدث إصابة قاتلة.

إذا فكرت في هذه المرأة، فلا أنكر أن التدخل الجراحي أنقذ حياتها.