سيرة «الفقيه» الحفيد

TT

تميز رئيس تحرير مجلة «الأفكار»، الأستاذ وليد عوض، بكتابة الريبورتاجات والتحقيقات المسهبة. وفيما تجاهل الجميع تاريخ لبنان المعاصر، على أساس أنه لا يستحق الذكر ولا التدوين، أولاه وليد عوض التقدير والاهتمام. فمضى يبحث وينقب ويسأل ويلاحق الشهود أنى عثر عليهم. وهكذا تحول إلى مؤرخ لسيرة الرؤساء اللبنانيين كما لسيرة عدد من الصحافيين. لكن يبدو أن «بشارة الخوري، فارس الموارنة العرب» الصادر أخيرا في جزءين، هو العمل الأكثر أهمية بين عدة أعمال تميزت بالموضوعية والبحث وجزالة الأسلوب وطراوة السرد. ومع وليد عوض، المدقق والفضولي والصحافي المتمرس، نكتشف للمرة الأولى، كلبنانيين، أن عائلة أول رئيس استقلالي جاءت من الحبشة. ومن هناك أيضا جاءت عائلة أخوال الرئيس فؤاد شهاب، الذين عرفوا في لبنان بآل حبيش. وكان من هؤلاء الأدباء والكتاب والظرفاء. وأما جد الرئيس، أي بشارة الخوري الجد، فكان قاضيا من قضاة الشرع الإسلامي في ظل الحكم العثماني. ومن أجل بلوغ هذا الشأن درس في المدرسة السلطانية في طرابلس، وصار يعرف بلقب «الفقيه بشارة». وقد تناقلت العائلة هذا المناخ الأخلاقي والتربوي. وتقدم الجد والأب ثم الابن في ظل الحكم العثماني. لكن الحفيد كان له أن يتزعم الحركة الاستقلالية بمؤازرة العرب الذين سحرتهم بلاغته، خطيبا وحكيما.

ينقلنا وليد عوض مع سيرة بشارة الخوري من زمن إلى عصر. ولا نقرأ هنا صفحات من تاريخ لبنان فحسب، بل من تاريخ المنطقة المتداخل مثل خيوط الصوف وحياكة القطن. وليس وليد عوض مجرد راو يسرد ما سمع وما قرأ وما بحث، بل هو مؤرخ متكامل النهج، غزير التفاصيل، دقيق الرواية، بحيث يفتح باب الإعجاب ويغلق دونه باب الهنات والمآخذ.

يقع هذا العمل الباهر في نحو 800 صفحة. نبدأ في زمن الأتراك، ونمر على نهاية الانتداب الفرنسي، ثم ننتقل إلى المرحلة الاستقلالية بقيادة رجلين لن يتكرر حجمهما العربي والسياسي والقومي في لبنان: بشارة الخوري ورياض الصلح. كان الشيخ بشارة داهية من دهاقنة السياسة، وكان ضليعا في العربية، ومتضلعا في الفرنسية، وخبيرا في القانون وفي الشرع، لكن صاحب هذه الشخصية القوية والنادرة ضعف أمام إغراءات السلطة، وشهوات المحاسيب. ولولا ذلك لانتهى كأعظم رجل في تاريخ لبنان الحديث. فقيه حفيد فقيه، عارف بالإسلام أكثر من بعض المسلمين، وعاشق له عشق العارف للمعرفة. لكن السياسات الصغرى تتدخل دوما في حياة الرجال الكبار. بشارة الخوري كان أحدهم، ووليد عوض كبير مؤرخي الرؤساء.