أَمْرَكَةُ المفاوضات وخيمة عربية لعباس

TT

كم في السياسة من مضحكات. لكن، على رأي المتنبي، ضحك كالبكاء!

هدنة حماس مع إسرائيل حلال. مصالحة فتح. استئناف مفاوضات السلام حرام. بشار يطالب باستئناف مفاوضات السوريين غير المباشرة مع إسرائيل. لكنه ضد مفاوضات الفلسطينيين غير المباشرة مع إسرائيل. وليد المعلم العربي الوحيد الذي يعتقد بأن قنبلة إيران النووية ستكون للأغراض السلمية. نجاد يرفع أصابع مشعل وشلّح (تجاهل أصابع جبريل)، معلنا سحق ومحق إسرائيل في حربه (الافتراضية) التي أعلنها من دمشق. ثم يعتذر عن عدم ظهور «المهدي» إلى الآن، لأن الاستفزازات المنبعثة من إسرائيل تدمر طبقة الأوزون، وتلوث البيئة التي يتعين على «الغائب المنتظر» أن يتنفسها، لينقذ المنطقة.

في انتظار غودو، تشتد حملة المزايدات على عباس: خرج على الإجماع. فرّط. هَرْوَل. تراجع. تَخلّى عن القضية. عن الكرامة. القرضاوي أفتى بِرَجْمِه. هنية طالب باستقالته. كان لا بد، إذن، من مظلة عربية تحمي عباس من ثقافة التشكيك والتخوين والمزايدة التي سادت الشارع الفلسطيني منذ نحو مائة عام، وعطلت إمكانية التوصل إلى حل أفضل في زمن أَبْكَر.

نعم، ربما كانت العودة إلى مفاوضة أشد حكومات إسرائيل يمينية وتطرفا، بمثابة تراجع. لكن لم يحدث تفريط. لم يقدم عباس تنازلات تمسّ جوهر القضية والجذور والحقوق. لم يفرط بالحدود. المياه. الأمن. العودة. الدولة. السيادة. المفاوضة حركة إجرائية. تكتيك دبلوماسي. المفاوضة تخدم الفلسطينيين سياسيا ودوليا، مع تعاطف الرأي العام العالمي معهم، بعد الانقلاب الهائل ضد إسرائيل.

إسرائيل خسرت بأمركة المفاوضات. أصرت حكوماتها دائما على المفاوضات المباشرة. كانت ترفض حتى وساطة أميركا المنحازة. أوروبا التي تستطيع فرض حل على إسرائيل، بمجرد التهديد بمقاطعتها اقتصاديا، خسرت أيضا، لأن الاتحاد الأوروبي ما زال عواصم ودولا متعددة. ليست هناك حكومة واحدة. ولا قرار سياسي أو دبلوماسي موحد.

عرب لجنة المتابعة تصرفوا بحنكة. منحوا أميركا وإسرائيل فرصة الاختبار. أربعة شهور تفاوضية. تناسوا فشل مفاوضات أنابوليس. لكن لا أصدّق عمرو موسى عندما يقول إنها «محاولة أخيرة». بل سيتم تمديد المفاوضات. ثم التجديد للتمديد. لأن الشهور الأربعة غير كافية لتسوية كل هذا الركام من القضايا.

لو كان عرب المزايدة واعين، لأحرجوا عباس بسؤاله عن الضمانات والتعهدات والإيضاحات التي طلبها من إدارة أوباما. حتى عرب المتابعة لم يسألوه. لأن كل دولة ربما حصلت على إجابات أميركية منفصلة. في حدود علمي المتواضع، لم تقدم أميركا أوباما التزاما رسميا بإقامة الدولة الفلسطينية. لكنها نقلت إلى العرب «تنازلات» إسرائيلية تشجيعية: بحث مشروع الاستيطان فور استئناف المفاوضات. انسحابات أرضية في الضفة. إطلاق أسرى. رفع حواجز. تسهيل حركة الاقتصاد والتجارة.

غير أن الدولة الفلسطينية ليست غائبة عن الذهن الأميركي. بات الاقتناع متوفرا بأن لا نجاح لأميركا في حربها على الإرهاب. لا تبديد للحقد على أميركا. لا نهاية لموجة التزمت الديني. لا وضع حد لاستغلال الدين في السياسة، من دون تسوية عادلة. من دون قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة بكرامة.

عرب المتابعة متشائمون. لكن سلام فياض سلطان الضفة متفائل. يمضي قدمًا في بناء المؤسسات وتأهيل الإدارات اللازمة للدولة المنشودة يحاول تثبيت الأمن. مع الأمن، تحركت عجلة التنمية والاقتصاد والتجارة. لكن فياض الإداري والمؤسساتي لم يستطع التحول إلى فياض السياسي الشعبي. فياض يحارب الفساد. صرف 40 ألف موظف مدني ومخابراتي لا عمل لهم. وسَّع الشوارع. طوَّر شبكتَي المياه والصرف الصحي. يعتمد على مِنَح الأشقّاء في الخليج والمساعدات من أوروبا، وأميركا التي تقدم نصف مليار دولار سنويا.

في المقابل، الصورة في غزة سيئة تحت حكم حماس. يقول مايكل مارتن وزير خارجية إرلندا الذي زار القطاع أخيرا، في مقالة له في «إنترناشيونال هيرالد تريبيون» إن 80 بالمائة من سكان غزة باتوا يعيشون تحت خط الفقر. لا يملك الناس ما يكفي من طعام (سمنة إسماعيل هنية تنفي حالة الجوع)، الحصار الإسرائيلي غير إنساني. كل ما تحقق من خلال فرض الحصار هو إثراء حماس، وتهميش أكثر لأصوات الاعتدال.

تستكمل «ها آرتس» الإسرائيلية الصورة الفاجعة لغزة تحت حكم الإمارة الحماسية بالقول إن الحقيقة هي أن العمليات الانتحارية ثم إطلاق الصواريخ منحت إسرائيل فرصة ذهبية، لتنفيذ خططٍ لمصادرة أراضٍ فلسطينية بذرائع أمنية. برهنت إسرائيل على أنها تعرف كيف تستغل جيدا السلاح الفلسطيني البدائي، من أجل تنمية وتطوير صناعتها الأمنية.

محمود الزهار يطالب العرب الآن بإعمار غزة. صحا الرجل أخيرا، بعد خمس سنوات على تحرير غزة. لو قبلت حماس النصيحة. لو اختارت التنمية لكانت غزة اليوم لؤلؤة بحريّة مزدهرة. مَنْ قال إنه لا إعمار في غزة؟ ها هي فيلات مشايخ حماس تعمِّر غزة. من أين الإسمنت؟ البركة في الإنفاق. لكن بيوت الناس الذين انتخبوا حماس ما زالت خرابا.

المفاوضات غير المباشرة عملية دبلوماسية سلحفاتية. هل يكرر الوسيط ميتشل معجزة سلام إرلندا الشمالية في فلسطين؟

ميتشل يخطو بِتُؤَدَة نحو الثمانين. قد يكون دور الوسيط صعبا عليه. لكن الاختبار الحقيقي هو لبنيامين نيتنياهو. كل «السلامات» والانسحابات والاتفاقات مع العرب حققها الصقور وليس الحمائم. نيتنياهو سياسي أكثر مما هو آيديولوجي. في كتبه، يعتبر الدولة الفلسطينية «خطرا قاتلا». رَفَضَ صلح أوسلو. اعترض على الانسحاب من غزة. ها هو اليوم يَتَهَجَّى بسهولة كلمة «الدولتان».

بيد أن تصوّر نيتنياهو للدولة الفلسطينية محكوم بضيق قدرته على المناورة، وهو على رأس حكومة من غلاة العنصريين الدينيين والصهاينة القوميين. ربما إذا رأي إمكانية للتوصل إلى تسوية من الفلسطينيين، عبر أميركا، فقد يقوم بانقلاب على حكومته. يصرف وزراء ليبرمان وشاس. يعقد زواجا حكوميا مع كاديما تسيبي ليفني. لكن ماذا يصنع بصهاينة حزبه (الليكود) المتزمتين الذين يرون الدولة الفلسطينية. على شكل منطقة حكم ذاتي مخترَقة. حدودها الغربية مع الأردن محتلة. الكتل الاستيطانية في جنوب القدس سوف تبقى «إلى الأبد» إسرائيلية؟

آه من العرب! من راقبهم مات هَمًّا. طالبهم نجاد بالاستعداد لخوض حرب إيران، إذ به يراهم ذاهبين إلى مائدة المفاوضات مع أميركا وإسرائيل، ذهب بنفسه إلى دمشق. جاء بحسن حزب الله معه. أراد أن يتأكد من أن جيش الأسد متأهب لخوض الحرب، إذ به يفاجأ بأن بشار مشغول بجيش آخر من مليون نازح سوري، هاربين من القحط والجوع والفقر من أقصي الشمال الشرقي، للانضمام إلى حزام البؤس الذي يُزَنِّرُ دمشق. حتى الوزير المعلم لم يقلب المائدة على رأس لجنة المتابعة. اكتفى بتسجيل اعتراض شكلي وبارد في محضر الجلسة.

لم يكن اختيار الإعلان عن القبول بالمفاوضة موفقا، في وقت يُهوِّد نيتنياهو المساجد الإسلامية، ويهدِّد المسجد الأقصى، ويخنق عملاؤه المبحوح. لكن كان لا بد من الإسراع بإدخال عباس تحت الخيمة العربية، قبل أن ينصب القذافي خيمة القمة، مع مفاجآته الطريفة المحتملة، كدعوة العرب إلى إعلان الجهاد معه ضد ماما أوروبا و«الخالة» اللدود سويسرا، أو العودة إلى تذكيرهم بدولته الفلسطينية/ الإسرائيلية (إسراطين). تكفي العرب حالة كلها طين في طين.