ثبات ومناورات ما بعد الانتخابات العراقية

TT

لم يكن من خيار غير الدعوة إلى مشاركة نشطة في الانتخابات البرلمانية، عسى أن تأتي بمعادلات جديدة. والآن وقد انتهى التصويت، فالحقيقة «المرة» هي أن الأمل في عراق ليبرالي يسود فيه الرأي الوطني على المواقف الطائفية والفئوية أقرب ما يكون إلى سعي نحو سراب «حتى الآن»! لكن التصميم ينبغي أن يبقى بمعدلات عالية.

صحيح أن أخطر الاحتمالات قد تضاءل، بتضاؤل فرص المالكي في تجديد ولاية حصل عليها أثناء اضطراب المقاييس، فإن الأمل في حصول القوى الليبرالية على نسبة أعلى من حصاد الأصوات يبدو مبالغا فيه. وستبدأ مرحلة التآمر والسجالات والاتفاقات، وربما نشاهد انسلاخ عناصر ومسميات نفعية انتهازية اعتادت على تغيير جلودها. ولا يقل خطرا عن هذا، احتمالات وجود عمليات اختراق منظمة ضمن التوجهات الليبرالية. فالليبراليون يفتقرون إلى الثقافة الأمنية في قراءة أهداف المنتمين، لعدم امتلاكهم جهازا لقياس وكشف الاختراقات.

لم يشهد العراق حقبة سادتها طائفية مقيتة كما شهدتها السنوات الأربع الأخيرة. وكانت الدول العربية واعية «تماما» بعدم تصديقها ادعاءات الفريق الدعوي المصغر «السرية» ببعده عن نظام ولاية الفقيه. وهناك من يقول أنتم من حرض العرب على المالكي. أما الحقيقة فإن سلوك المالكي لم يدع ضرورة للتحريض، كما أن لدى العرب خبرة ذاتية كافية. وسلوك فريقه كان طائفيا فئويا بلا جدال، ممزوجا بمحاولات خداع تكشفها التناقضات الحادة بين الأقوال والأفعال.

الصراع على رئاسة الحكومة سيبلغ ذروة لا سابق لها، وحتى لو رتب المالكي ما يُظهر تقدمه انتخابيا فسيصطدم بثلاثة معوقات، هي: إصرار الائتلاف الوطني على تسمية رئيس منه. وهنا سيواجه المالكي الدكتور عادل عبد المهدي والمهندس بيان جبر، وكلاهما كانا متقدمين عليه خلال فترة المعارضة وبالكفاءة الإدارية. وستظهر بالطبع خلافات داخل الائتلاف على تسمية مرشحه. وسيواجه المالكي مقاطعة قاطعة من قبل القوى الليبرالية عدا من «ينشق» عنها. كما سيواجه معارضة كردية لا تلينها بسهولة الاتفاقات الثنائية معهم، لأنهم أقرب إلى المجلس الأعلى من قربهم إليه.

لذا، فالحكومة المقبلة ستبنى مرة أخرى على المحاصصة في ضوء الاتفاق السياسي بين الكتل، وفي هذه الحالة يكون دور القوى الليبرالية أقرب إلى الضعف، إن لم تكن السيطرة الداخلية حازمة. وكيف يمكن تحقيق الحزم تجاه بعض الأطراف المهووسة بالمكاسب ومناصب لا صلاحيات فيها؟ مما يتطلب موقفا عربيا سياسيا قويا بشكل وآخر.

وإذا ظهر أن العراقيين ليسوا مؤهلين للتوجهات الليبرالية، نتيجة التلاعب، أو كمحصلة للمعطيات الداخلية، وهما أمران محتملان، فلا ينبغي الابتئاس كثيرا، فعمليات التحول الفكري غالبا ما تحتاج إلى وقت أطول. ومن الضروري التركيز على قطع طرق تجديد ولاية المالكي أولا، بحوارات متماسكة، والتركيز على حوار شامل مع الائتلاف الوطني. وكذلك مع الوجود البرلماني الكردي الذي من المتوقع أن يكون بأكثر من صوت. وترك الماضي القريب والبعيد، عدا مسيرة السنوات الأربع الأخيرة التي أزهقت بها أرواح، وهدرت أموال، وبذلت محاولات لتغيير الهوية العربية وهويات شرائح وطنية.

أما المطلوب عربيا ودوليا فقد يكون أكثر أهمية من مداولات الداخل. فعلى المستوى الدولي ينبغي على أميركا وبريطانيا تحديدا والغرب عموما الضغط باتجاه وقف التوجهات الطائفية وتحجيم الدور الإيراني الضار. ويبقى للدور العربي تأثيره المباشر، فلا ينبغي التركيز على ضرورة رؤية العراق بعيدا عن هيمنة فريق المالكي فقط، بل ضرورة تنسيق حالة التعامل مع النظام وفقا لهواجس الأمن وعناصر القلق، ومن الضروري عدم التعويل على التوصيات المستعجلة وذات الطابع السطحي التي يقدمها أشخاص لا يمتلكون مؤهلات لتقييم الموقف كما ينبغي تقييمه. أما أن يقول فلان أن العرب أسهموا في ابتعاد العراق عن محيطه العربي بسلبيتهم فهذه أعزوفة صبيانية تنطلق من آلات متخلفة.

في فترة حكم المالكي حاول العرب الاقتراب من العراق الرسمي، لكنهم صدموا بعدم التزام رئيس الحكومة بما قدم لدول عربية من تعهدات لمعالجة الملفات، وغالبية الفقرات التي طُرحت كانت تتعلق بالوضع الداخلي العراقي أكثر مما ترتبط بالوضع الإقليمي. وهنا لا بد من القول إن الموقف العربي ليس ضروريا فحسب، بل حتمي، طالما بقيت التوجهات الرسمية العراقية مثيرة لعناصر القلق. فكيف يمكن إقامة علاقات ودية مع وجود نحو أربعة ملايين عراقي مهجرين خارج العراق، لم تتخذ الحكومة أي خطوات لتوفير ظروف عودتهم إلى ديارهم؟ أو عندما تمارس الحكومة دورا وكأنها صفحة مستنسخة من برامج ولاية الفقيه الإيرانية؟

من حق العراق أن تكون له علاقات طبيعية مع إيران، لكن ليس على حساب مصيره ومصالح العرب وأمن العالم. وإنها فرصة تاريخية للحكومة المقبلة لتفتح عليها آفاق علاقة استراتيجية مع العرب والعالم.