المرأة السعودية وخضم التحديات

TT

تتركز الأضواء اليوم على المرأة المسلمة. والسعودية بالذات تستقطب كثيرا من اهتمام المراقبين والباحثين والمهتمين بشؤون المرأة. وتتفاوت المبالغة في تصنيف وتقييم موقعها بين السعادة والشقاء، من اعتبارها حظيظة لكونها «الجوهرة المكنونة»، إلى كونها الأكثر فقدا لحقوقها منذ لحظة ولادتها حتى يغيبها الثرى. وفي الغالب لا يأتي هذا الاهتمام حبا فيها لسواد عينيها بل وسيلة للنصح بدور «أفضل لها» يرونه المرغوب فيه بمعنى استغلاله لمصلحة أو أيديولوجية هذه الجماعة او تلك.

كيف ترى المرأة السعودية نفسها وإنجازاتها؟

أين هو موقعها اليوم بالضبط؟ ومقارنة بمن؟

لا تتفق كل المواطنات السعوديات في رؤيتهن. تناقض حاد بين النبرة الصاخبة للناشطات بالمنظمات العالمية والمنابر الإعلامية الغربية مطالبة بحقوق «المرأة المضطهدة»، وبين احتفال الداعيات المستمرئات لمنجزهن في الأوضاع السائدة. وكلا الطرفين يبالغ في تصوير حال المرأة السعودية سوءا أو خيرا.

لا شك أن مفتاح اتضاح الرؤية لموقع المرأة يأتي في معقولية اختيار المدى الزمني الذي نقارن وضعها في أوله بوضعها في آخره. فكلما اختير هذا المدى بصورة غير حيادية، جاء التصنيف الناتج غير علمي وغير واقعي.

هكذا نرى التصنيف الإيجابي، الذي يقارنها اليوم بأوضاع المرأة قبل الإسلام حين كانت المرأة متاعا يتوارث، يتناقض مع التصنيف السلبي الذي يقارنها بأوضاع المرأة في الجزيرة في مطلع القرن، حين كانت مشاركة المرأة جزءا مهما في الحياة الاقتصادية للأسرة، وكان حضورها فاعلا غير مختزل وراء جدران تحميها من تأثير «فتنتها المغوية». كذلك الذين يقارنون موقعها بموقع المرأة في العالم الغربي يتناسون أن منجزات المرأة الغربية تراكمت بعد قرون من التغير البطيء في نظرة المجتمع، وبمساعدة ظروف استثنائية ضاغطة، منها حربان عالميتان، وهبوط وانهيار اقتصادي كوني، وحملات نسوية مكثفة.

يجدر بالباحث غير المرتبط بأيديولوجية سلفية أو غربية أن ينظر إلى متغيرات وضع المرأة في السعودية خلال إطار زمني معقول؛ أراه العقود السبعة الأخيرة. فقبل هذه الفترة لم يكن هناك دولة سياسية توحد المناطق التي تحمل اليوم الهوية السياسية السعودية، وكانت أوضاع المرأة البدوية في صحارى البدو الرعاة بقلب الجزيرة غيرها في السواحل المفتوحة والمناطق الزراعية والجبال الوعرة. وفيها كلها، رغم اختلاف تفاصيل الدور الفعلي اقتصاديا، كانت المرأة تتمتع بحضور حيوي في المجتمع ولم تعزل عنه تحت أي مبررات بدعوى أن الاختلاط باب يؤدي إلى الإثم يجب أن يسد.

لم يبدأ تعليم المرأة بالصيغة الحديثة حتى الستينات الميلادية، أي قبل نصف قرن، ولقي معارضة مبدئية مفهومة، تغلب عليها القرار السياسي الحازم لفتح مدارس البنات إسوة بالفتيان. ولكن لتهدئة توجس المتخوفين أوكلت إدارة تعليم البنات إلى القيادات الدينية. وكان ذلك في وقته قرارا حكيما استوعب توجس المجتمع.

خلال عقدين من الزمن أصبح تعليم الفتاة أمرا مقبولا من الغالبية، حاملا بذرة الجدل المجتمعي مستقبلا حول قرار ما بعد التخرج من المدرسة، وبعدها الجامعة، حيث المعتاد هو دورها الأسري كربة بيت دورها تدبير المنزل وتنشئة الأطفال وخدمة الرجال المنشغلين بكسب الرزق.

عقد الثمانينات حمل مجموعة من التغيرات التي أثرت في المجتمع ككل وفي أوضاع المرأة بالذات: لعل أهمها ارتفاع دخل الدولة من تصدير النفط، والطفرة المادية التي نتجت عنه وأدخلت اليد العاملة المستوردة بالملايين، فجعلت عمل المرأة لدعم اقتصاديات الأسرة أو الدولة أمرا غير ضروري؛ ثم أحداث المنطقة دينيا: مواجهة جهيمان العتيبي في الحرم، وثورة الخميني في إيران دفعتا الرأي والقرار الرسمي للتهادن مع تصاعد ضغوط التيار السلفي مما مكنه من التغلغل في أسلوب الحياة ومناهج التعليم وقيم الشارع وأبطأ نمو نبتة حراك المجتمع علميا وحركة التطوير التي بدأها الملك المؤسس عبد العزيز، وحين أوقف برنامج الابتعاث للدراسة شلت حركة التواصل مع المستجد العلمي العالمي إلا قليلا.

وكانت المرأة ضمن الفئات التي دفعت الثمن خاصة حين استقطب التيار المتشدد المتعلمات القياديات لمحاربة فكرة عمل المرأة على أنها ضد تعاليم الدين وأنها مؤامرة غربية على المرأة المسلمة التي من الأفضل أن تبقى جوهرة مكنونة في خدر مصون.

وهكذا عايشت المرأة السعودية منذ منتصف الثمانينات وضعين متناقضين: تعليمها حتى الدراسات العليا المتخصصة، ومعارضة المجتمع المحلي للانفتاح وعملها بجانب الرجل.

ولكن أوضاع الطفرة المادية وتداعياتها التي سمحت بتدفق العمالة الوافدة وبتعدد الزيجات والإنجاب - وبالتالي ارتفاع عدد المعالين - لم تستمر. في حين أن التطورات الديموغرافية زادت الوضع تعقيدا، حيث تزايدت نسبة فئة الشباب من الجنسين بين السكان حتى أصبحت تمثل تحديا كبيرا لصانع القرار والخطط التنموية، لتزامنها مع ارتفاع معدلات البطالة وتفضيل العمالة الوافدة، حيث المناهج لم تزل لا تتواءم مع احتياجات سوق العمل في القطاع الخاص الذي لم يتحمس لتدريب الشباب أو طلباتهم المكلفة، بينما القطاع العام لم يعد يستطيع استيعاب كل الخريجين والخريجات في وظائف إدارية كما اعتاد الجيل الأسبق من الخريجين. في ذات الوقت أشرعت تقنيات التفاعل الفضائي والإلكتروني الباب الخلفي لمعرفة تطورات العالم وراء الحدود وفرضيات التشدد.

رب ضارة نافعة: كل هذه التأزمات المتشابكة اتضحت تداخلاتها وتداعياتها الخطرة حين فاجأت العالم أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، وما تلاها من اتخاذ غزو صدام للكويت ذريعة للتدخل العسكري في المنطقة وهجرة الكثير من العمالة الوافدة من حرب لا تخصهم، لتلقي الضوء على ضعفين مصيريين: مدى ارتهان المنطقة للمصالح والتقنية واليد العاملة الأجنبية من جهة، والى تمدد خلايا الغلو والتشدد في نسغ الوطن، وان فئة الشباب من الجنسين قد تم اختطافها وجدانيا، وأدلجتها حتى أصبحت خلايا ترتهن الوطن كله.

أصبح لا بد من مواجهة الوضع بقرارات مصيرية تعيد الأمور إلى الوجهة الصحيحة. وبدا واضحا أن مشاركة المرأة في إعادة التوازن الاقتصادي والوجداني والاجتماعي السلوكي أمر لا بد منه حتى وهو يلقى معارضة مكثفة من جبهات متعددة لمبررات مختلفة. صحيح أن تعليم المرأة ضمن التعليم العام ظل مستمرا، والحمد لله، وإن حركة توظيف الخريجات لم تتوقف، وإن عانت ضعف الطلب وعدم الدعم مجتمعيا، إلا إن تأزم الحالة الاقتصادية، وإلقاء الضوء الكاشف على تأثر السلوكيات المجتمعية بتراكمات العقود الأسبق، شكلت دافعا رئيسيا في القرارات المتعلقة بالمرأة التي اتخذت في السنوات الأخيرة موضحة بشكل قاطع الوجهة التصحيحية مع تولي الملك عبد الله سدة الحكم.

هناك من يحجم من دور النضج الذي أوصل صانع القرار إلى اتخاذ القرارات المفصلية في أوضاع المرأة، وينسبها إلى الضغوط الغربية. وقد يكون لها بعض الأثر في تشجيع قرار التصحيح، ولكن المتأمل في الخطط التنموية حتى الأسبق زمنا يجد أنها تتضمن إعطاء المرأة دورا اكبر في المشاريع المتخذة وأن البحث عن طرق لتفعيل هذه القرارات وتمكين المرأة – عبر التعليم والتدريب والتخصص - والتغلب على التردد المجتمعي كان مستمرا.

أما التشكيك والنقد السلبي بأان القرارات التطويرية جاءت متأخرة جدا وأنها بطيئة في التنفيذ والتطبيق العام وأن ما يتحقق هو منجز أفراد لا مؤسسات، فهو أيضا نظرة متجنية تتحاشى الاعتراف بأن تجذير التغيير، بحيث يدعمه التقبل المجتمعي، يتطلب وقتا كافيا.

البرامج المؤسساتية الجديدة التي استوعبت مشاركة المرأة بكفاءة وفعالية؛ مثل برنامج الحوار الوطني والأمان الأسري وحقوق الإنسان والمجالس الاستشارية والغرف التجارية؛ أثبتت عمق وصدق الرؤية التي فتحت للمرأة أبواب الترحيب خارج ما تقبله المجتمع كوظائف نسائية في التعليم والخدمات الصحية والفروع النسائية لمؤسسات الخدمات كالبنوك أو المشاركة في المؤتمرات الأكاديمية والتخصصية.

ما أراه مشجعا وداعيا للتفاؤل هو أن المرأة نفسها بدأت تتقبل متطلبات الدور الفاعل، وتثبت الآن قدرتها على تحمل المسؤوليات المناطة بها في الإدارة العامة والعليا، مصنفة الصعوبات والتشكيك والرفض من بعض فئات المجتمع على أنها تحديات ستتغلب عليها بإصرارها على إثبات الذات وتأكيد صحة النظرة التي منحتها ثقة التعيين والدعم، ومتفهمة أن معارضة بعض فئات المجتمع لتغيير الوجهة سببها التخوف لعدم الاعتياد.

* كاتبة سعودية