درسان من اليونان.. وبريطانيا

TT

في حديثه إلى «دير شبيغل»، الذي نشرته «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي، اعتبر رئيس وزراء اليونان، وهو يشرح مشكلات بلاده التي وقعت في أزمة مالية طاحنة والقرارات الصعبة غير الشعبية التي يجب أن تتخذ، أن السياسة تعني أيضا تثقيف المواطنين والحديث بصراحة معهم لتعريفهم بالمشكلات والحاجة إلى إجراء تغيير.

وفي بريطانيا التي تستعد بعد أشهر قليلة لدخول انتخابات عامة أيضا على إيقاع تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، التي احتاجت ضخ تريليونات الدولارات لمنع كساد كبير، تدور المعركة بين الحزبين الرئيسيين، العمال والمحافظين، على من الذي يصارح الناس بحقيقة الموقف، ومن الأقدر على اتخاذ قرارات صعبة لتخفيض الدين العام الذي وصل إلى مستويات ضخمة، وهي أيضا ستكون قرارات غير شعبية.

وبين اليونان وبريطانيا فارق في طريقة تلقي الرأي العام للأنباء السيئة والمطالبة بشد الأحزمة، بما يعكس فارق التجربة الديمقراطية المتراكمة التي تشكل وعي الناس وطريقة تصرفهم، وتعاملهم مع سياسيهم. ففي الأولى هناك احتجاجات وإضرابات على إجراءات الحكومة التي تسعى إلى استعادة المصداقية بتقليص نفقات وامتيازات، ورواتب وعلاوات، ووظائف حكومية، وفي الثانية هناك تقبل من الرأي العام لحقيقة أن الاقتراض يعني أن أحدا يتوجب أن يسدد الدين في وقت معين، وإلا انهار الاقتصاد والسمعة والمصداقية.

في اليونان، الأزمة الحقيقية التي جعلت الدين العام يصل تقريبا إلى 120% من الناتج المحلي هناك هذا العام هو أنه خلال سنوات الطفرة والرخاء الأخيرة كان هناك تلاعب رسمي في الإحصاءات الحكومية لإخفاء حقيقة الموقف وحجم الدين، رغم أنها عضو في الاتحاد الأوروبي الذي يضع معايير محددة لنسب العجز المالي والتضخم إلى آخره، ويبدو أن ذلك كان ممكنا في السنوات الماضية لأنه بحكم طبيعة البشر لا أحد يدقق كثيرا عندما تكون هناك وفرة، ولكن عندما تكشفت الحقيقة وأصبح هناك حاجة لمساعدة من الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي، اكتشف اليونانيون أن لا أحد سيكتب شيكا على بياض مهما كانت قوة الروابط، ما لم يجر إعادة ترتيب البيت من الداخل.

ووصل الأمر إلى حد دعوة أثينا إلى بيع بعض جزرها الكثيرة في البحر المتوسط لتسديد الديون، وقد يكون في ذلك تطرف إلى حد كبير، لأنه لا يمكن لجيل أن يبيع أراضي بلاده لأن في ذلك افتئات على حقوق الأجيال المقبلة، وإن كان ذلك يحمل في مضمونه رسالة رمزية مهمة وهي أن الأخطاء لها ثمن تدفعه الأجيال، أو أن جيلا يمكن أن يقترض على حساب جيل مستقبلي.

لكن في كل دول أوروبا التي تواجه تداعيات الأزمة العالمية هناك شيء مشترك هو أنه لا يوجد سياسي له مصداقية يحاول التغطية على الحقائق، أو اختراع مسميات وتعبيرات، وإطلاق سياسات شعبوية قد ترضي الناس لفترة من الزمن ليكتشفوا في المستقبل أن أقدامهم غرزت أكثر في الحفرة، فما يحدث هو، الحديث صريح ومباشر بين السياسيين والناس، لا يقدم سوى الحقائق مع تفسيرها وشرحها حتى لو كانت غير سارة للجمهور.

وهذا هو درس الديمقراطية الحقيقية.. فالسياسة لا يجب أن تكون فن الضحك على الناس، ودغدغة عواطفهم، وتسويق سياسات شعبوية يعرف مطلقوها أنها ستقود في النهاية إلى الخسارة ولن تصمد مع الزمان، وإنما المصارحة والتثقيف، مهما كانت الحقائق مؤلمة.