عودة السياسة إلى القاهرة وبغداد!

TT

الأصل في العواصم العربية المختلفة أنه لا يوجد «سياسة» Politics، بمعنى أن تتنافس قوى اقتصادية واجتماعية بعد ترجمتها إلى أحزاب وحركات وجمعيات منظمة على استخدام الموارد والقدرات الوطنية لتحقيق أهداف الدولة العليا. عملية التنافس هذه تجري في الدول الديمقراطية من خلال ما هو معلوم من انتخابات محلية وقومية بطريقة دورية؛ وما بين الأعوام يجري السباق على صفحات الصحف ووسائل الإعلام. أما في الدول غير الديمقراطية فإن مثل ذلك كله يجري داخل حزب واحد، أو أن يتحول التنافس إلى أشكال مختلفة من الصراع، يكون القهر فيه موجودا على جانب الاستبداد الحاكم، والتمرد والاحتجاج على جانب السعي نحو الخلاص منه.

بلادنا العربية لا تنسجم على الأغلب مع أي من النموذجين، أو أن الانسجام ليس صافيا أو نقيا، وهناك دائما استثناء لبناني بشكل أو بآخر، وحالة كويتية خاصة، ودول انفلت فيها العيار وجرى الفشل، حتى إن الدولة غابت ولم يعد للمقاييس التي نتحدث عنها في السياسة معنى. ومع ذلك فإن النمط الغالب في غالبية الدول العربية هو أن صفقة ما قد جرت ما بين جماعة - أو أسرة - وشعب على مجموعة من المهمات، أولها الحفاظ على الدولة من الانفراط والفوضى، وثانيها أن تقوم الدولة برعاية المواطنين في مقابل الولاء للحكم. وبينما كان للنفط دور في تكريس هذه الحالة في عدد من الدول حيث أتاح ما يكفي من الموارد لتمويل الصفقة؛ فإن موارد أخرى مع بعض من الشدة جعلت الصفقة مستساغة ومقبولة. وأيا كانت الأسباب فقد كانت النتيجة هي غياب السياسة، طالما أن النظام نجح في تحدي الفوضى، وشيوع الرضا طالما أن عجلة الحياة تسير بطريقة مقبولة، حيث يحدث كثير من التقدم على أي الأحوال أو بعضه.

ليس معنى ذلك أبدا أن الأحوال كانت ساكنة في معظم الدول العربية، فلم تتوقف المناورات يوما داخل النخب المسيطرة، ولا كان مستحيلا أحيانا إجراء التغيير. وفي دولة مثل مصر بحجمها وسكانها فإنها تحملت التحول من النظام الملكي إلى نظام جمهوري، وسارت الحياة رغم وفاة زعيم بحجم وقدر جمال عبد الناصر بينما بلاده محتلة، ولم تنطبق السماء على الأرض حينما جرى اغتيال زعيم آخر كان قد انتهى توا من تغيير مصير منطقة الشرق الأوسط بأكملها عندما عقد السلام مع إسرائيل. مثل ذلك وغيره جرى في بلدان عربية كثيرة، ولكن جوهر الصفقة لم يتغير، ومع ذلك يبدو أن هناك بوادر لعودة البلدان العربية إلى الحالة الطبيعية للدول حيث تجري السياسة مجراها في عملية تحديد سياسات الدولة. وهنا فإننا لا نتحدث عن تلك النوعية من السياسة التي يصاحبها امتشاق السلاح والتهديد بالعنف والانفصال كما هو الحال في اليمن مثلا؛ ولكننا نتحدث عن السياسة التي تستهدف من جانب إلغاء أصل الصفقة في التاريخ السياسي؛ ومن جانب آخر تحديد مسار المستقبل.

وببساطة فإن أصل الصفقة التي يجري إلغاؤها في بغداد هو ما جرى في شهر يوليو (تموز) من عام 1958 عندما جرى الانقلاب، أو الثورة إذا شئت، على النظام الملكي، حيث أتت جماعة جديدة إلى السلطة أخذت أشكالا متنوعة خلال العقود التالية. وما جرى في بغداد من انتخابات متتابعة ليس فقط إزالة النظام السابق الذي بدأت إزالته مع الغزو الأميركي للبلاد؛ ولا هو عودة إلى نخبة النظام الملكي الأقدم حتى لو كانت بعض الأسماء متشابهة، وإنما هو باختصار إطلاق للسياسة على نطاق واسع بين الأعراق والمذاهب والجماعات السياسية المختلفة بحيث تسير التعبيرات عنها ما بين الانتخابات والحملات والآراء. والحقيقة أنه منذ إعلان الأميركيين عن عزمهم على مغادرة البلاد، فإن النخبة العراقية باتت تواجه قدرها التاريخي للحفاظ على بقاء العراق، بينما تجري السياسة بحيوية لا تقاطعها طلقات الرصاص.

في القاهرة يبدو الأمر مختلفا، فالدولة المصرية القوية العاتية لا يوجد فيها التهديد الذائع في دول عربية أخرى بالفوضى والانقسام، ولكن السائد بين الجمهور المصري أن الصفقة التي جرى إبرامها أو القبول بها في يوليو من عام 1952 قد استنفدت أغراضها منذ فترة؛ بل إنها باتت عائقا أمام التقدم المصري. وبشكل أو بآخر فقد كانت الصفقة مفيدة على مدى ستة عقود تقريبا عندما حمت البلاد من فوضى الأربعينات، وحررت البلاد مرة من الإنجليز، ومرتين من الإسرائيليين؛ ومع الحماية حققت مصر استيعابا لقرابة ستين مليونا إضافية، بل وجعلتهم أفضل صحة وتعليما، وزاد على ذلك اتساع في حجم مصر عندما بات المصريون يعيشون على ضعف المساحة التي كان يعيش عليها أجدادهم، وبدلا من 3% في الوادي الضيق، وصل المصريون إلى البحر فعاشوا على 6% من المحروسة.

في القاهرة الآن يوجد تياران: تيار استمرار سريان الصفقة، حيث تسير التنمية في مسارها لتكوين الفائض الذي يسمح للحكم بالوفاء بجانبه في عملية توزيع الموارد؛ ومن هنا تأتي الآن عملية دعم الانتشار التنموي من خلال مشروعات ربط وادي النيل بالبحرين الأحمر والأبيض وخلجان سيناء. وتيار آخر يريد عودة السياسة إلى مصر مرة أخرى من خلال تغيير قواعد اللعبة كلها، أي من خلال تغيير النظام الدستوري والقانوني للبلاد، وبعد ذلك تأخذ التنمية مسارها من خلال المنافسة المشروعة في السياسة والاقتصاد أيضا. والعجب المصري هنا هو أن التيارين يأتيان من قلب الدولة المصرية ذاتها، وبينما يوجد الأول بالطبيعة داخل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، فإن التيار الثاني جرى تفعيله من قبل إما شخصيات شعبية مثل الدكتور محمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية وكلاهما كانت له ارتباطاته الوظيفية بالدولة المصرية في فترة أو أخرى. أما التفعيل الآخر فجاء من قبل أحزاب المعارضة المصرية المدنية - الوفد والتجمع والناصري والجبهة الديمقراطية - التي تجمعت من أجل برنامج للإصلاح السياسي لا يخرج في جوهره عما أتت به الجماعة الأولى.

وسواء كان الأمر في بغداد أو القاهرة فإن المسألة ليست «ثورة على الثورة» وإنما هي سعي نحو التعامل مع عصر بأدواته التي تتعامل مع المجتمعات وليس مع أجهزة حكم؛ وفي الوقت نفسه تريد قدرة أكبر على مواجهة تيارات ظلامية تريد أخذ عقارب الساعة إلى الوراء مرة أخرى. وبصياغة أخرى للمسألة، فإن العقود الماضية استهلكت نفسها بطريقة أو بأخرى، وظهر في دول عربية أخرى كيف أن استمرار الصفقة مستحيل وهي إما إلى انتقال نحو حالة «يمنية» أو «صومالية» أو حتى «عراقية» أو «لبنانية» في لحظات حزينة تاريخيا؛ أو أنها تجد لنفسها ملاذا باجتهاد طريق نحو الاعتراف بالسياسة على كثرة الجهد فيها فإنها الأكثر سلامة.

وأسباب الانتقال ليست صعبة على الرصد، ومنها ليس فقط الخوف من المجهول وتجارب الفاشلين، أو حتى تغير البيئة العالمية كما هو شائع، ولكن البنية الاجتماعية نفسها تغيرت، وفي العراق فإن الأسماء الشهيرة لم تتغير فقط وإنما نوعيتها أيضا حيث جاءت جماعة تعرف طرق العالم لغة وفهما ودراسة. وفى القاهرة فإن مثل ذلك لم يحدث فقط، وإنما أضيف له طبقة وسطى صاعدة يمارس أبناؤها السياسة في العالم الافتراضي على شبكة الإنترنت التي أصبحت واقعية بشدة. وما بين بلاد الرافدين وبلاد النيل فإن الإعلام لم يترك حجرا أو قضية أو شخصية أو فكرة دون تحريك أو مناقشة؛ وبينما تكون السياسة الإقليمية هي موضوع محطات تلفزيونية عربية، فإن الإعلام المصري والعراقي منشغل بقضايا مجتمعات معقدة وفيها من التركيب والتنوع ما يكفي لحوارات صعبة.

هل لحظة التغيير بانتهاء الصفقة حقيقية هذه المرة أم إنها محض سراب، وهل هي لحظة تخص البلدين فقط أم إنها شائعة بين البلدان العربية الأخرى أو يوجد لها جذور في هذا البلد أو ذاك؟ والإجابة عند علام الغيوب؟!.