المسلمون في الغرب: الانسجام الاجتماعي هو الطريق الثالث

TT

تخوُّف الغربيين من صعود الأصولية الإسلامية وامتدادها إلى بلادهم، عبر الجاليات المسلمة المقيمة في الغرب، واقع يصعب تجاهله أو إنكاره. ولا سيما أن الحركات الإسلاموية الجهادية، في مواصلتها لعملياتها، مقاومة أو إرهابا، في العراق وأفغانستان وغيرها من البلدان الإسلامية، ضد القوات الغربية والأنظمة القائمة فيها، تُذكر، كل يوم، بهذا «الخطر الإسلامي (الجديد)»، الذي حل، في نظر كثيرين من الغربيين، محل الخطرين اللذين هدداه، بالأمس، ونعني: الشيوعية والنازية.

ولقد بات هذا التخوف يترجم قوانين وقرارات وتدابير حكومية احتياطية وتضييقية على الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب، بالإضافة إلى الحملات العسكرية التي ذهبت تقاتل في العراق وأفغانستان، مشاركة الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة في الحرب المعلنة على الجماعات الإرهابية.

ولقد أحدث هذا التخوف من «الخطر الإسلامي القادم» ردود فعل في صفوف المسلمين العائشين في الغرب، تتراوح بين التكتل الطائفي، والتمسك بالتقاليد والمميزات الثقافية الوطنية أو الدينية، الأمر الذي اعتبرته المجتمعات الغربية رفضا لأنظمتها، وتمنعا عن الاندماج في انتظامها الاجتماعي، بل وتحديا لها في عقر دارها. ومن هنا كانت أزمة الحجاب في المدارس، ومنع بناء المآذن في سويسرا، و«النقاب»، مؤخرا. ولم يكن ينقصها سوى دعوة القذافي المسلمين إلى «إعلان الجهاد على سويسرا والكفار السويسريين»؟!

إن ترك هذين التيارين منطلقين في عنانيهما، ومتغذيين من المعارك الدائرة في الشرق الأوسط ضد الحركات الإسلامية، ومن الصراع العربي الإسلامي - الإسرائيلي، سيؤدي، يوما ما، إلى تصادم هذه الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب بالحكومات والمجتمعات الغربية. لا سيما إذا تصاعدت الحرب الدولية على الحركات الأصولية الجهادية الإرهابية في العالم، ونجحت هذه الأخيرة في اختراق الجاليات الإسلامية في الغرب، وفي استخدامها في حربها مع الدول الغربية.

ليس من مصلحة الغرب، ولا الدول الإسلامية والعربية، ولا من مصلحة المسلمين العائشين في الغرب، الوصول إلى حالة الصدام، أو الانفصام، أو العداء السافر للغرب ومجتمعاته. بل لا بد من معالجة هذه الأزمة الناشئة من قبل كل الأطراف المعنية، أو المشاركة فيها. ونعني: الحكومات الغربية والجاليات الإسلامية في الغرب، والحكومات العربية والإسلامية، والمرجعيات الدينية الإسلامية، وقادة الرأي العام.

إن القوانين في الغرب تضمن للإنسان، مواطنا كان أم مقيما أم وافدا، حقوقا وحريات واسعة. والمسلمون المقيمون في الغرب يتمتعون بحقوق وحرية وضمانات اجتماعية ليست متوفرة لتسعين في المائة من المسلمين في دولهم. وفي مقدمها حق وحرية ممارسته لواجباته الدينية، صلاة وصوما وحجا وتزكية وبناء للمساجد. والفتاة أو المرأة المسلمة ليست مجبرة على ارتداء الملابس «الكاشفة» وتقليد المرأة الغربية زيا وحياة وتحررا، بل يمكنها أن ترتدي ثيابا محتشمة وتغطي شعرها وعنقها بمنديل غير مميز لها عن غيرها من النساء، وغير لافت للأنظار. كما أن الرجل المسلم يستطيع ممارسة كل فروض وتعاليم دينه وهو مرتد السروال والسترة والكاسكيت الغربية. ويخطئ الذين يدفعون المسلمين في الغرب إلى «التميز» عن أبناء البلاد الأصليين، وتحديهم بالخروج عن المشهد الاجتماعي، وبالاختلاف الاجتماعي والسلوكي.

وهنا تطرح القضية في جوهرها: أي هل المطلوب من المسلمين في الغرب أن «يندمجوا» في المجتمعات الغربية، أم أن يبقوا متميزين عنها؟ وماذا تعني عبارة «الاندماج»؟ وما هي حدود التميز المقبول؟ وهل الذوبان في هذه المجتمعات، والولاء المطلق للدولة والوطن الموجودين فيه، يفترض التخلي التام عن «هويتهم وثقافتهم ومعتقداتهم؟ أوليس بين الاندماج والانفصال حالة ثالثة، هي «الانسجام»؟ وهي حالة تفترض الجمع بين احترام قوانين ومشاعر أهل البلاد، وبين التمسك، دون تعصب أو مبالغة ظاهرين بالفروض الدينية، أو السلوك والمظاهر الاجتماعية، ولكن على غير النحو الذي يدعو إليه الأصوليون الغلاة، لا سيما المسيسون منهم. بل بطريقة أو أسلوب يجذب إعجاب وتقدير أبناء البلاد غير المسلمين - وهذا ما تضمنه القوانين الغربية لهم ولكل «الأقليات» التي تعيش اليوم في الغرب. ولا يعتبر ذلك انحرافا عن سلوك الإنسان المسلم في جوهره.

قد يكون حسم هذه المشكلة الكبيرة صعبا، اليوم. وقبل أن يحسم الصراع السياسي والعسكري المحتدم بين بعض الدول الغربية الكبرى والأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، من جهة، والتيار الأصولي الجهادي ودول الممانعة والرفض الداعمة له، من جهة أخرى. وقد تمر سنوات قبل أن يتضح مآل هذا الصراع، ولا سيما أن إسرائيل لن تتوقف عن النفخ على جمر كل تناقض بين الغرب والمسلمين. ولكن بانتظار ذلك لا بد للمرجعيات الدينية الإسلامية، في الغرب وفي العالم الإسلامي، من تغيير صورة الإسلام المتطرف والمعادي للغرب، التي رسمتها القاعدة والطالبان والجماعات الدينية - السياسية المتطرفة في أذهان العالم، بخطابها العنفي وعملياتها الإرهابية، وإبراز جوهر الدين الإسلامي الداعي إلى التسامح والاعتدال والسلام وتعايش المعتقدات. فالمعركة تربح فكريا وثقافيا قبل أن تربح عسكريا وسياسيا.