أنا والرقابة

TT

سيستغرب القارئ عندما يقرأ أنني، الكاتب المؤمن بحرية الفكر، أحب الرقابة. أولا لأنني لا أؤمن بالحرية المطلقة. يجب أن تكون هناك روابط واحترامات لمشاعر الآخرين وتقدير لمسؤوليات الدولة.

ثانيا أنني أشعر بطمأنينة أكثر عندما أنقل المسؤولية عما أكتب لشخص آخر. إذا حصلت مشكلات، أشير إليه وأقول هذا هو المسؤول. هو الذي أجاز لي ذلك، وهو رجل مسؤول يقبض راتبا سخيا عن هذا العمل. فأمسكوا به واضربوه واسلخوا جلده كما يعجبكم. أنا بريء من دمه. وهذه نقطة مهمة لشخص مثلي، ترك العراق قبل نصف قرن وعاش في محيط مختلف ولم يعد يشعر بالاعتبارات والحساسيات المحلية. ولهذا أرتاح لوجود رقيب علي يرشدني وينصحني.

ثالثا أنني كثيرا ما وجدت أن الرقيب أرحم بالكاتب من جمهورنا ومثقفينا. فالرقيب بصورة عامة يعمل من منطلق احترام الكاتب، فلا يقمعه دون سبب. أما المثقفون فيعملون من منطلق الحقد والحسد والمنافسة ضد الكاتب فيفتشون عن أي ثغرة يوقعونه بها. هكذا نجد أن معظم عمليات القمع والتكفير الشهيرة التي شهدناها في عالمنا العربي أثارها المثقفون لا المسؤولون. هكذا كان أمر الشعر الجاهلي لطه حسين ورسائل التعليقات للرصافي.

مررت بمثل هذه التجربة في كتابي «التجربة الديمقراطية في عمان». عندما تحدثت مع وزير الإعلام بادرت فورا إلى استشارته في الموضوع. قال أنت حر. نحن في عمان لا نتدخل في آراء الكتاب. كل ما في الأمر أننا نستاء عندما يذكر كاتب شيئا منافيا للحقيقة الموضوعية. ومع ذلك، طرحت المسودة لأحد المسؤولين للاستئناس برأيه. اعترض على شيء واحد فيها. ذكرت أن السلطان قابوس تعلم اللغة الألمانية عندما اشتغل ضابطا هناك. قال هذا غير صحيح، السلطان لا يعرف اللغة الألمانية. فبادرت إلى شطب ذلك السطر.

أسوق كل هذا الكلام على هامش ما يجري على شبكات الإنترنت ومواقعها. رحبنا أولا بهذه الوسيلة اعتقادا منا بأنها ستعطي المجال لحرية الرأي وطرح المعلومات والأفكار التي تقمعها السلطات. أوغل القوم فيها. وأصبحنا الآن نرى كل من هب ودب ويحمل حقدا ضد أحد أو طرف ما أو يعجبه أن ينفس عن أفكار أو عواطف مسيئة أو شخصية يجلس على الكومبيوتر ويؤسس لنفسه في دقيقتين موقعا يقول فيه ويضع عليه كل ما شاء من صور أو معلومات أو أرقام أو تقارير كاذبة ومختلقة ومشينة. أي شخص حاذق في الموضوع يستطيع اليوم أن يصورني في أوضاع مخلة ويكتب تحتها شتى العبارات والادعاءات. ما كنا نأمله وسيلة مجدية للمعلومات والحوارات الفكرية أصبح مهزلة ومسبّة. أحذر كل من يبعث لي بملاحق على عنواني الإيميلي أنني لا أفتح ولا أقرأ أي شيء يصل إلي على الإنترنت. أجلس وأقول لنفسي يا ليتهم يعينون رقيبا يتولى الرقابة على هذه المواقع ويحاسب أصحابها على ما يقولون. ولا أملك غير أن أردد ما قيل في الثورة الفرنسية: «إيه أيتها الحرية. كم من الجرائم تقترف باسمك».