الأوضاع تتخذ منحى جديدا في أفغانستان

TT

من خلال النجاح الذي أحرزته العملية المشتركة ضد طالبان في أكثر مناطق أفغانستان توترا، بات هناك أمر واضح: إذا اتخذت قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) والقوات الأميركية موقف الهجوم، سيكون باستطاعتها دوما تحقيق أهدافها العسكرية.

والتساؤل الحقيقي الآن يدور حول ما إذا كان النجاح العسكري يترجم إلى مكاسب سياسية مستدامة، أم لا. منذ عام واحد فقط، كان يجري النظر إلى الصراع الدائر في أفغانستان باعتباره صراعا منخفض الحدة، أوشك أن يطويها النسيان. والآن، يتصاعد الاهتمام بهذه الحرب مجددا باعتبارها قضية محورية في إطار محاولات الرئيس باراك أوباما لصياغة استراتيجية عالمية للتعامل مع الشرق الأوسط الكبير. الملاحظ أن أوباما زاد أعداد القوات الأميركية المقاتلة في أفغانستان بمقدار الضعف تقريبا.

لدى تدخلها في أفغانستان عام 2001، انصب اهتمام الولايات المتحدة على ثلاث مصالح جوهرية.. أولاها: أن تثبت للأصدقاء والأعداء على حد سواء أنه لا يمكن لأحد أن يهاجمها من دون عقاب. قبل هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عانت الولايات المتحدة سلسلة من الهجمات الإرهابية، بداية من احتجاز دبلوماسييها كرهائن في طهران وصولا إلى قتل 241 من قوات مشاة البحرية (المارينز) في بيروت، والهجوم الأول ضد مركز التجارة العالمي عام 1993. ومع ذلك، لم ترد واشنطن على نحو يثبط أي جهة ربما تفكر في الاعتداء عليها مستقبلا. من خلال إعلان الحرب ضد أفغانستان، كانت واشنطن تحاول تعويض ذلك وسد هذه الفجوة عبر بث الطمأنينة في نفوس الأصدقاء وتوجيه تحذير إلى الأعداء. ودارت الفكرة الرئيسة التي سيطرت عليها في أنه «إذا لم نذهب إلى هندكوش، ستأتي إلينا هندكوش».

أما المصلحة الثانية لواشنطن من وراء غزو أفغانستان فتمثلت في العثور على وتدمير القواعد التي جرى عبرها تصدير الإرهاب إلى أراضيها، وأسر أو قتل، أينما أمكن، العقول الإرهابية المدبرة.

أما المصلحة الثالثة فكانت مساعدة الأفغان على أن يستبدلوا بطالبان حكومة من اختيارهم على أمل أن يحول ذلك دون معاودة ظهور قواعد إرهابية مجددا.

وبحلول عام 2005، كانت جميع الأهداف الثلاثة قد تحققت. وكان بمقدور واشنطن حينذاك إعلان انتصارها داخل أفغانستان والشروع في تقليص وجودها العسكري هناك استعدادا لفك الارتباط. إلا أن إدارة بوش عجزت عن التفكير في اتخاذ هذا النهج لأسباب سياسية داخلية.

ومن المهم كذلك التأكيد على حقيقة غالبا ما يجري تجاهلها في النقاش الدائر حول أفغانستان، وهي أن نظام طالبان لم يتبع قط سياسة صريحة معادية للولايات المتحدة.

اليوم، يكمن الهيكل الأمثل بالنسبة لأفغانستان في بناء اتحاد غير محكم تتمتع تحت مظلته المجموعات العرقية والدينية الـ18 الموجودة في البلاد باستقلال ذاتي كامل على الأصعدة الاقتصادية والثقافية والإدارية. إلا أن النظام الذي تطور داخل أفغانستان منذ عام 2002 اتخذ المسار المعاكس. مثلا، يحظى الرئيس الأفغاني اليوم بسلطات لم يكن ليحلم بها أي ملك أفغاني من قبل. وتتمثل المشكلة في أنه من المتعذر استغلال مثل هذه السلطات والصلاحيات من دون إثارة مقاومة عنيفة من جانب أغلبية الأفغان. ولا يمكن التعامل مع هذا العنف سوى بالقوة.

من ناحية أخرى، فإن الرئيس كرزاي نظرا لكونه عضوا بقبيلة بشتونية قليلة الشأن وافتقاره إلى قاعدة تأييد تخصه، فإنه ليس بإمكانه امتلاك القوة اللازمة لفرض سيطرة حكومة مركزية على مختلف أرجاء بلاده. ويحاول كرزاي القيام بذلك من خلال الاعتماد على القوة الأميركية. والنتيجة أن وجدت واشنطن نفسها منغمسة في الحياة السياسية الأفغانية كما لو كانت مجرد قبيلة أخرى بالبلاد، وإن كانت واحدة تملك قوة نيران أكبر من أي قبيلة أخرى.

جدير بالذكر أن حلف الناتو يشارك بنحو 90.000 جندي في أفغانستان، وهي دولة في حجم كاليفورنيا. من بينهم، لا يقاتل الثلث تقريبا بسبب شروط ومحاذير تفرضها حكومات هذه القوات. ويفرض هذا الوضع تقسيم العمل على القوات على نحو مناسب، بمعنى أن وحدات الناتو غير الراغبة في القتال ينبغي أن تعمل على تخفيف الأعباء عن كاهل الأخرى المشاركة في القتال من خلال تحملها مسؤولية مهام مثل أعمال الشرطة وتنفيذ دوريات والمساعدة في أعمال التشييد والبناء والاستخبارات.

حتى في هذه الحالة، ربما يجابه الجنرال ماكريستال، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، صعوبة في تعقب المتمردين على نطاق واسع اعتمادا على قرابة 60.000 جندي فقط. عند الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى تبديل القوات على نحو دوري والواجبات اللوجيستية والإدارية، ربما لا يجد الجنرال أمامه قوات كافية للاضطلاع بعمليات مناسبة للبحث والتدمير، ناهيك عن خطة «السيطرة والاستحواذ»، حتى إذا ما أضيفت وحدات بريطانية وكندية وفرنسية. إذا ما رغب الرئيس أوباما في الفوز بالحرب التي فرضتها الضرورة، سيتعين عليه زيادة أعداد القوات الأميركية التي تخوض القتال الذي ربما يستغرق عامين أو ثلاثة. حتى في هذه الحالة، يجب أن يدرك الجنرال ماكريستال أن خطته الرامية لتعزيز القوات ربما تعجز عن توفير جميع القوات المطلوبة.

وسيتعين عليه العثور على حلفاء داخل أفغانستان، مثلما فعل بترايوس في العراق. يذكر أن أفغانستان بها أكثر من 150.000 من المجاهدين السابقين، ينتظرون على هامش الحياة السياسية في البلاد لرؤية ما ستتمخض عنه التطورات الجارية. الملاحظ أن طالبان لم تتمكن قط من فرض سيطرتها على كامل أفغانستان، ولا تحظى بتأييد شعبي كاف يمكنها من حكم البلاد بأكملها في أي وقت. وعمدت طالبان إلى نشر حكمها، غالبا اسميا، من خلال تقديم رشاوى إلى المجاهدين. وطبقا لإحدى الحكم ذائعة الصيت حول أفغانستان، فإن المرء لا يمكنه قط شراء أفغاني، لكن باستطاعته استئجاره. وربما تبدو سياسة نبذ المجاهدين السابقين، ونعتهم بـ«لوردات الحرب» جذابة داخل الصالونات الثقافية، لكنها تؤتي بنتائج عكس المرجوة على الصعيد الواقعي. إلى جانب ذلك، هناك نحو 50.000 من «الأفراد الأمنيين» الخصوصيين يمكن استغلالهم بفاعلية أكبر حال نشرهم في إطار استراتيجية أوسع نطاقا.

كما أن لدينا قرابة الـ180.000 جندي أعضاء الجيش والشرطة الأفغانيين. في أغلب الوقت، تلقت هذه القوات رواتبها مقابل لا شيء، أو في أفضل الأحوال، نظير تنظيم حركة المرور في كابل. وطبقا لما يراه بعض الخبراء، فإن ثلث الجيش الأفغاني يتميز بالفاعلية ويمكن الاعتماد عليه. ويمكن أن يثمر دمج هذه القوات مع جنود الناتو والحلفاء عن خلق دور أمامها في أعمال القتال ضد المتمردين. يذكر أن الولايات المتحدة وحلفاءها نجحوا في خلق جيش يزيد قوامه على 600.000 جندي في كوريا في غضون 18 شهرا فقط نتيجة تمكنها من تعبئة الموارد الضرورية. ويعود السبب الأكبر وراء الفشل في تحقيق أمر مماثل في أفغانستان إلى نقص الموارد.

من ناحية أخرى، تقدر أعداد أعضاء عصابات الاتجار في المخدرات بـ15.000 رجل مسلح، غالبا ما يتعاونون مع طالبان التي ربما يصل أعداد أعضائها إلى 20.000 فرد. وربما تضم جماعات متمردة أخرى، مثل الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، 5.000 مسلح. تجدر الإشارة إلى أن حكمتيار عمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لسنوات، ويتلقى حاليا جزءا من تمويله من إيران منذ عام 1996. وقد أوضح مؤخرا أن لديه استعدادا لدراسة أي عروض. وفي خضم ترتيب هرمي للعمليات، تبقى طالبان الأولوية الأولى. وربما يعني ذلك الدخول في تحالفات تكتيكية حتى مع أكثر الجماعات المسلحة بغضا، وشراء ولاء البعض الآخر. في الحقيقة، تواجه أفغانستان مشكلة عسكرية تتطلب حلا عسكريا. وقد بدأ مخططون استراتيجيون أميركيون في إدراك هذه الحقيقة. ويجب خوض هذه الحرب والفوز فيها. وليست هناك حاجة للذعر والصراخ طلبا لوضع «استراتيجية خروج»، حتى قبل خوض أي معارك كبرى. حاليا، تسيطر الجماعات المتمردة على 11 فقط من إجمالي 362 ضاحية، مما يشكل أقل من 1% من مجمل سكان البلاد. وتقع معظم قواعدهم الرئيسة في باكستان المجاورة، وبالنسبة لجماعة حكمتيار فإن مقرها إيران. ومع ذلك، يساور واشنطن هلع بالغ تجاه ما يراه كثيرون فشل يلوح في الأفق في أفغانستان.

نظرا لما أحيط بشرعية كرزاي من شكوك جراء الانتخابات الرئاسية المتنازع حولها، يجب أن تنال فترة رئاسته الثانية مباركة «لويا جيرجا»، وهي مؤسسة تمثل الجماعات العرقية والقبائل والمجموعات الدينية المختلفة في أفغانستان. ويعترف الدستور الجديد بـ«لويا جيرجا» باعتبارها مجلسا تشريعيا، بل والمجلس التشريعي الأكبر على مستوى البلاد. ويمكن لـ«لويا جيرجا» مناقشة والموافقة على التعديلات الدستورية اللازمة. الملاحظ أن النظام الرئاسي الذي أقر عام 2002 لا يعكس التنوع الأفغاني. وعليه، هناك حاجة لإقرار تعديلات دستورية تقلص سلطات الرئيس، وتستحدث منصب رئيس الوزراء، وتبني نظاما ديمقراطيا برلمانيا وتنقل بعض السلطات إلى الأقاليم.

اليوم، لم نخسر أفغانستان، تماما مثلما لم نخسر العراق منذ ثلاثة أعوام عندما كانت الأصوات المنذرة بالهزيمة تتعالى في واشنطن.