الانتخابات العراقية وظواهر الانقسام في المجتمعات العربية

TT

بدأ المراقبون يختلفون في تفسير النتائج الأولية للانتخابات العراقية. فالذين يُؤْثرون الإيجابية يقولون إن الانقسام الطائفي انخفضت درجته، بدليل أن التحالف الشيعي الذي حكم المحافظات العربية أو أكثرها بالعراق بعد انتخابات العام 2005 جاء ثالثا بعد تحالفَي المالكي وعلاوي. ثم إن السنة ما عاد عندهم تحالف كبير وقوي، بل التحقوا بالكتل الثلاث الكبرى: كتلة المالكي، وكتلة علاوي، وكتلة المجلس الأعلى. وجاءت جبهة التوافق (السنية) التي كانت هي الرئيسية بين السنة في الانتخابات السابقة، خامسة أو سادسة من حيث عدد النواب الذين فازوا تحت عنوانها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الانقسام السياسي تراجع. فبدلا من عشرات الجبهات، صارت هناك بين العرب ثلاثة تحالفات كبرى من وراء المالكي وعلاوي والمجلس الأعلى. ويمضي الإيجابيون هؤلاء قدما، فيرون في هذه الظواهر الجديدة، دليلا على الأمل في إمكان قيام دولة مركزية. فقوة المالكي - الذي كسب أكبر عدد من النواب - نابعة من وجوده في رئاسة الوزارة، طوال السنوات الأربع الماضية. لكن السلبيين أو المتشائمين يوجهون الأنظار إلى ظواهر متنامية للانقسام. فإلى جانب التحالفات الثلاثة الكبرى بين العرب، ظهرت عشرات الجبهات والمظلات في المناطق الشيعية والسنية، التي لا يجمعها جامع، باستثناء النزاعات المحلية والعشائرية والطائفية. فالعصبيات الدينية لا تزال قوية، وقد اكتسبت سمات محلية، بدلا من أن تكون كبرى وشاملة على مدى العراق. وينبغي أن لا ننسى أن الإثنية أو القومية الكردية - وإن ظهرت فيها أقليات إسلامية أو جهوية - لا تزال قوية وثابتة من جهة، أي في مواجهة العراق العربي (السني والشيعي)، ومن جهة أخرى فإن الانقسام السياسي يتعمق بين الأكراد أيضا، عندما يتعلق الأمر بالرقعة التي تنتشر عليها القومية الكردية.

والواقع أن العراق في وضع لا يمكن اتخاذه نموذجا أو القياس عليه. فقد ساده لأكثر من ثلاثة عقود نظام قوي واندماجي ويأبى التمايزات مهما بلغت ضآلتها. ثم جاء الغزو الأميركي فشرذم وحطم كل شيء، فظهرت العصبية الشيعية على سبيل التضامن للتمكن من أخذ السلطة. وظهرت العصبية السنية للتمكن من الدفاع عن النفس. وظهر المتشددون الدينيون في العصبيتين، إلى جانب «القاعدة» التي جاءت من خارج العراق، وفرضت حالة من الانقسام العنيف، بحجة مقاومة الاحتلال، وبحجة العودة إلى الإسلام الصحيح لدى كل من الطرفين. وهكذا فإن ظروف العراق الخاصة والاستثنائية، لا يمكن اتخاذها دليلا على اتجاهات التوحد أو الانقسام في ظروف ما بعد الاحتلال الأميركي.

إنما إذا اتجهنا إلى خارج العراق، فإننا نلاحظ أنه حتى في المجتمعات الموحدة تاريخيا ودينيا، ظهرت وتظهر انقسامات تتفاقم وتتزايد عنفا واتساعا. ومن ذلك ما حصل ويحصل في الصومال، وشمال السودان، وما يحدث في اليمن شمالا وجنوبا ووسطا. ففي الصومال الموحد الإثني، والموحد مذهبيا، انقسمت العشائر على بعضها، وانهارت وحدة الإسلام التقليدي، وظهرت الجهويات والمذهبيات الجديدة. وإذا أمكن تعليل ذلك بغياب الدولة هناك، فكيف يمكن تعليل الانقسامات في شمال السودان (دارفور مثلا)، والدولة قوية وقائمة. وكذلك الأمر في اليمن، حيث تقوم الدولة، ومع ذلك فقد انتشرت انقسامات دينية وطائفية في الشمال والجنوب والوسط، فضلا عن «القاعدة» الآتية من الخارج. وهذا في نظر المراقبين إن دل على شيئ فإنما يدل على تأصل النزوع للانقسام في المجتمعات العربية سواء غابت فيها الدولة أو حضرت. وإنما يتحدد دور الدولة أو نظام الحكم، بما يحصل في البلاد من انقسام، وهو ناتج عن التمايزات التي تتحول إلى مشروعات للانفصال، أو عن سوء إدارة السلطة لهذه التمايزات، وتشجيعها بالسلوك وبالفكر والتصرف على الانشقاقات والانقسامات.

ومنذ القرن الماضي سادت في علم الاجتماع الغربي الظهور والتطور مقولة قوامها أن المجتمعات الغربية اندماجية، وأن المجتمعات الشرقية انقسامية. ومعنى ذلك أن البنية الاجتماعية تقوم على وحدات قبلية أو عشائرية تتمايز في ما بينها وتنكمش على نفسها، وتتحفز لمصارعة كل الآخرين. وفي السنوات الأخيرة كثرت البحوث التي تتناول الانقسامات بالدرس. فذهب بعض الباحثين إلى أن الانشقاقات الدينية هي التي سوف تكون لها الأولوية في القرن الحادي والعشرين. بينما نبه بعضٌ آخَر إلى أن القياس على ما حصل في القرن العشرين، يدل على ترجيح حدوث الانقسامات القائمة على أصول إثنية، وليس على أسس دينية. ومقولة الانقسام في علم الاجتماع، والتي تذهب إلى قيام المجتمعات العربية والشرقية عليها، هي التي سادت لدى العسكريين الأميركيين ولدى الاستراتيجيين الأميركيين، في تعاملهم مع المجتمع العراقي. فقد رأوا منذ عام 2005 أن وجود البنية القبلية بالعراق (كما بسائر الدول العربية)، يدفع باتجاه استغلال تلك البنية لمكافحة «القاعدة». وهكذا ظهرت الصحوات بين العشائر في الأنبار وغير الأنبار، فغلبت العصبية القبلية على العصبية الدينية التي استثارتها «القاعدة»، والتنظيمات الدينية المشابهة. إلى أي حد يمكن الذهاب مع هذه المقولة أو تلك؟ يتحدث القرآن الكريم ليس عن الطبيعة الانقسامية للمجتمعات، بل عن اختلاف التنظيم الاجتماعي من مجتمع إلى آخر. فقد جاء في القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا». فذكر الشعب والقبيلة باعتبارهما شكلين من أشكال التنظيم الاجتماعي، ودعاهما للتعارف أو التعاون رغم الاختلاف وليس بسببه. وكان ابن خلدون كما هو معروف، يشترط وجود العصبية (القبلية) والدعوة الدينية، لقيام الدول. لكنه يسلم بالمقولة القرآنية في أشكال التنظيم الاجتماعي، والذي يؤثر كثيرا في السياسة بالطبع. ولو تأملنا المشهد من حولنا لوجدنا كيانات تتشقق وتنقسم، وأخرى هادئة وموحدة. ولا يرجع ذلك إلى اختلاف أو اختلال التنظيم الاجتماعي، بل إلى اختلاف نظام الحكم. فالنظم السياسية المنفتحة والتي تحسن إدارة التمايزات، وإدارة الشأن العام، لأنها تملك وعيا وطنيا قويا وبعيد المدى، تظل الانقسامات فيها محدودة. أما النظم والأنظمة التي تصر على الاندماج الكامل والتماثلية، وتتلاعب بالتنظيم الاجتماعي سواء أكان قبليا أو غير قبلي، فإن المتاعب تحصل فيها. وذلك لأن الدولة لا تعود تلعب دور الحكم أو الضابط أو المنظم، بل إن النظام يستعين لبقاء سطوته بعصبية واحدة أو أكثر، فينشب النزاع في قلب المجتمعات صراعا على السلطة السياسية. ويبدو النظام في حالات كثيرة العامل الرئيسي لاستمرار انتظام المجتمع وبقاء الدولة بينما الواقع عكس ذلك تماما. وقد سادت في العالم العربي بالفعل في العقود الماضية، حالات من النزاع الاثني أو الديني. والعامل الإثني أو القبلي موجود في الأصل، وإنما استثارته عوامل سياسية ظرفية كما سبق القول. أما العامل الديني المتمثل في العصبيات الأصولية فهو جديد وطارئ. وإذا كانت الأنظمة قد أساءت التعامل - عامدة أو غير عامدة - مع العامل الإثني والآخر القبلي، فلا شك أنها ستسيء التعامل مع العامل الديني الذي لم تسبق لمجتمعاتنا تجارب في التعامل معه، وهو يسعى إلى التمايز والانكماش والانقسام والتحفز.

في ضوء هذا كله، نعود لتأمل الوضع بالعراق قبل الانتخابات وبعدها. فالتمايزات الإثنية والقبلية والدينية والطائفية موجودة وحساسة. وإنما تتحول إلى انقسامات إذا اشتدت عليها الضغوط من الداخل أو الخارج. وقد خفت ضغوط المحتلين الأميركيين. كما أن السلطة الجديدة على كثرة أخطائها اتخذت في السنوات الأربع الأخيرة سمات مركزية دونما ضغوط لا تحتمل على البنى القبلية أو الدينية. ولذلك فإن من الممكن أن تتجه الأمور إلى التهدئة والتوازن وتدبير الشأن العام وإدارته بطرائق أفضل. بيد أن المشكلة القومية لا تزال موجودة في التمايز العمودي بين عرب وأكراد. وكذلك الأمر مع العصبية الشيعية والسنية الحاضرة في كل مكان. وكما يظل مهما في هذا الصدد وجود السلطة المركزية القوية والمنتخبة، يظل مهما وجود النخب السياسية والثقافية والدينية، التي تعمل بوعي على تقوية أواصر التواصل والعيش المشترك أو الواحد.