إسرائيل: تفجير المنطقة بـ(لغم) القدس.. وإقامة عرس للتطرف

TT

ما يفعله (بنو إسرائيل) في القدس والمسجد الإبراهيمي وسائر الأرض المحتلة (وضعنا نسبتهم إلى إسرائيل بين قوسين لأن هناك براهين قوية تؤكد أنهم ليسوا جميعا يمتون بنسب صحيح إلى إسرائيل).. ما يفعله هؤلاء الناس إنما هو تطبيق لعقيدة أو رؤية استراتيجية متمددة في ذهن من سمح لهم بذلك، ووفر لهم الغطاء السياسي والأمني واللوجستي، وهو رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو. فهذا الرجل ألف كتابا - منذ عشرين عاما تقريبا - تحت عنوان (مكان بين الأمم). وفي كتابه هذا جزم زعيم المستوطنين ومرشدهم الأيدلوجي والاستراتيجي بأن ليس في فلسطين (آثار) إسلامية ولا فلسطينية (بناء على هذا التصور قرر نتنياهو ضم المسجد الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح إلى قائمة التراث اليهودي).. وهذه هي عبارات نتنياهو - بالتحديد - كما وردت في كتابه المذكور: ((عندما تجول إدوارد روبنسون، وكلود كوندر وعلماء آثار آخرون في البلاد أول مرة، استطاعوا التعرف بسهولة نسبية على المواقع الأثرية اليهودية لأن العرب لم يهتموا حتى ولو بتغيير أسمائها، وتركوا الأسماء العبرية القديمة مع بعض التحريف في العربية.. ومن بين المواقع اليهودية التي لم تتغير أسماؤها تقريبا، وجد الباحثون مدينة عناتوت (عناتا)، وميادين المعارك التي خاضها المكابيون في لبونة (لوبان)، وفي بيت حورون (بيت حور)، ومثل ذلك: عراد (تل عراد)، وبئر شيفع (بئر سبع)، وبيت شيمش (عين شمس).. وفي حقيقة الأمر أقام العرب 1200 سنة خلال وجودهم على أرض إسرائيل، أقاموا مدينة واحدة هي الرملة)).. هذه الحقائق الواضحة دفعت السير جورج آدم سميث ليكتب في عام 1891 ما يلي: (لا توجد حضارة محلية في فلسطين يمكن أن تكون بديلا للحضارة التركية سوى الحضارة اليهودية التي منحت فلسطين كل شيء ذي قيمة إلى الأبد).. وهذه كذبة ضخمة لا تصدر إلا عن محترفي الكذب التاريخي والحضاري والسياسي. والدليل على الكذب هو دليل (إسرائيلي) أيضا. فمنذ أيام نشرت مجلة (تايم) الأمريكية تقريرا موثقا خلاصته أن: فرق الآثار والتنقيب الإسرائيلية لم تعثر، على مدى السنوات التي قضتها في العمل، على أي دليل يثبت يهودية القدس خلال الحفر في جنبات المدينة. ونقلت المجلة عن رافائيل جرينبرج، المحاضر في جامعة تل أبيب والمتخصص في الآثار، أنه قال إن علماء آثار إسرائيليين أكدوا له أنهم لم يعثروا على شيء يذكر، مما يؤكد أن الهدف من هذه الحفريات هو طرد الفلسطينيين من مدينة القدس فحسب.. وهذه الأكاذيب والأساطير تدخل في سياق ما تباهى به بن غوريون من قبل، إذ قال: ((إن الأسطورة يمكن أن تصبح حقيقة إذا آمن الناس بها وإذا دعموها بما يكفي من القوة)).

هذه الأيدلوجية الموغلة في البطلان - بالمقياس التاريخي - هي التي أزّت الحكومة الإسرائيلية إلى اغتصاب المسجد الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح وضمهما إلى تراث اليهود.. وهي الأيدلوجية ذاتها - مع المزيد من الشحن الديني العالي المعدلات - تقف وراء مخططات تهويد القدس بمنهجية متوالية ومتصاعدة.

وهذا هو الزلزال الذي سيضرب المنطقة ويرج أمنها العقدي والسياسي والاجتماعي والفكري رجًّا لا قبل لأحد - قط - باحتمال تداعياته الدامية.. إن قضية القدس قضية غير قابلة للعبث، واللهو، والاستهتار، والمقايضة، وإن اللاعبين بها إنما يلعبون بالنار التي تحرق كل شيء.. فهؤلاء اللاعبون يمهدون المسرح - بغباوة منقطعة النظير - لعودة صراع كريه ودامٍ حول القدس استمر قرنين من الزمان (1095 - 1291) وهو ما عرف في التاريخ بـ(الحروب الصليبية) وهي حروب سممت العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب قرونا متطاولة، ولا تزال تسممها.. نعم.. نعم. إن العميان من غلاة اليهود أو الصهيونيين تواصوا بتفجير المنطقة - من جديد - بـ(لغم القدس).. وتاريخ هؤلاء العميان يثبت أنهم دوما يمشون في ذات الطريق التي تتسبب في أذيتهم، وأذية غيرهم.. فالمشكلة الحقيقية هي أن اليهود أو فريقا منهم (وهذا هو التعبير الصحيح والعادل والعاقل)، يَقْدُم قومه دوما إلى الهلاك والمذبحة.. ولقد خلت المثلات من قبل.. كانوا في بيت المقدس ذات يوم فاقترفوا فيه من المفاسد ما لا يطاق تصوره، فجاءهم نبيهم (أرميا) فنهاهم عما هم فيه فعصوه وكذبوه واتهموه بالجنون وقيدوه وسجنوه، فمكثوا غير بعيد فجاءهم بختنصر فجاس خلال الديار، فحرق ودمر وحكمهم حكم الجاهلية والوثنية والجبروت بعد أن حرّق التوراة.. ثم تكررت التجربة مع الرومان، حيث هدم القائد الروماني تيتوس المعبد في القدس عام 70م.. ومن طبيعة العمى التاريخي والاستراتيجي، أنه يحجب أصحابه عن الاعتبار بما جرى لهم فيعمدون إلى تكرار الخطيئة فيتكرر - من ثم - المصير البائس.. ومن صور هذا العمل المميت: أن يظن ظان أن تلغيم غلاة الصهيونية المنطقة بـ(لغم القدس) لن يفجر المنطقة بصراع ديني متناه في العنف والفوضى والدموية. فهذا ظن لا يصدر إلا عن عميان أضافوا إلى العمى: الصمم والبكم أيضا.. أ- فالمنطقة تموج موجا بالشعور الديني القوي، وهو شعور نشأ وتراكم لأسباب عديدة ليس هذا مقام استقرائها. ب- وظلم غلاة اليهود وعبثهم في فلسطين المحتلة تجاوز كل تصور واحتمال، ولا سيما في قضية القدس. وهذا وضع ينشئ التطرف والعنف إنشاء: ولو لم يكن موجودا أصلا. ج- إن جرائم الصهيونية أصبحت أمام أعين الناس: لا يمكن إخفاؤها بسبب وجود فضائيات تنقل أفاعيل الصهيونيين وبغيهم على مدار الساعة.. وهذه الجرائم - في القدس بالذات - تستفز ضمائر الناس وتهيج مشاعرهم: ولو لم يكونوا عميقي التدين، ذلك أن القدس (مقدس) مكنون في ضمير كل مسلم - مهما تدنت درجة إيمانه - : ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)).. هذه الأسباب والعوامل ستعبئ المنطقة بشعور ديني ملتهب ومتأجج ضد ممارسات العدو الصهيوني في القدس.. وفي هذه الحال - التي نجزم بحصولها على الرغم من عمى العميان - : يتعرض الأمن العربي (في صورتيه: القطرية والقومية) لمهددات جدية: لا يؤمن بالأمن من يستخف بها.. فتجاه هذا الغليان الديني العام - الذي تغذيه إسرائيل على مدار الساعة - : إما أن يقول الحاكم العربي لشعبه: إن أمر القدس لا يعنيني، وهو قول غير مستطاع، لأنه قول (غير أمني) - بالمفهوم الاستراتيجي - .. وإما أن يسكت هذا الحاكم فتكون النتيجة مماثلة للأولى.. وإما أن يقر المفسدين في القدس على إفسادهم فتكون الفتنة الكبرى العاجلة.. وباستبعاد هذه المواقف غير العقلانية، وغير الأمنية، يتعين العمل الصحيح، وهو اتخاذ مواقف عربية رسمية - قطرية وقومية - واضحة وصارمة ضد هذا الجنون الإسرائيلي المبرمج.. ومن هذه المواقف السياسية (المستطاعة): التصميم العربي الجماعي على عدم إعطاء إسرائيل أي فرصة زمنية جديدة تغطي بها تنفيذ برامجها الاستيطانية والتهويدية.. وصك مصطلح موضوعي وقانوني وجريء وهو (إسرائيل عدو السلام) ثم حمله - بذكاء وهمة - إلى الرأي العام العالمي - المهيأ لتقبل ذلك - .. ومن مداخل خطاب المجتمع الدولي: الدق المتواصل على أن ما يفعله الإسرائيليون هو بمثابة إقامة (عرس عظيم) للتطرف والعنف في المنطقة والعالم. فالعبث الصهيوني في القدس فرصة تاريخية عقدية لجماعات العنف، بمعنى أن الأفعال الصهيونية الشريرة المنقولة - بالصورة والكلمة - إلى المجتمعات كافة تمثل (مادة) غزيرة ومثيرة لتجنيد ألوف الشباب الملتهب في شبكات الغلو والعنف، وعندئذ تمسي جهود مكافحة الإرهاب معطلة أو عديمة الجدوى، لأن حركة التجنيد للعنف ستكون أنشط وأوسع وأسرع من معدلات برامج مكافحة الإرهاب.. وهكذا، فإن إسرائيل - في حقيقة الأمر - قد جندت نفسها - بسلوكها هذا - في خدمة التطرف والعنف الذي تدعي محاربته!!.. فهل تتسع أجندة القمة العربية القادمة لهذه القضية المشحونة بالمخاطر: القريبة والبعيدة المدى؟ وهل من العقل والمصلحة أن يضحي القادة العرب بأمن أوطانهم، وأمنهم القومي، وأمن العالم كله في سبيل غلاة يهود حمقى سيجلبون - بكل توكيد - البلاء على أنفسهم وعلى من حولهم: كما حدث في التاريخ أكثر من مرة.. ثم ألا يستحي الفلسطينيون من أنفسهم ومن الناس أجمعين حياء.. يحملهم على توحيد صفهم؟.. وإن لم يفعلوا، فعلى القادة العرب: أن ينذروهم على سواء: إما أن تتوحدوا خلال ثلاثة أشهر مثلا.. وإما أن نتخلى عنكم في صورة جماعية، فإن الأمة لا تستطيع أن تفعل شيئا لمن يصر على فقأ عينيه بيديه!.