لم يبق سوى العمائم

TT

الأستاذ خالد القشطيني ما فتئ بين الحين والآخر يحدثنا عن الماضي الذي عاشه في العراق وذلك عن تجربة تكاد تكون وثائقية.

ومعروف أن العراق ومنذ أن أوجده الله على سطح الأرض، ولا أدري متى، ولكنه منذ ذلك الحين وهو «مفرخة»، أو إذا أردتم صفة علمية أكثر، أقول: إنه منذ ذلك الزمن السحيق وهو مصنع لا يتوقف عن إفراز أو إنتاج الملل والنحل والديانات والعقائد والطقوس والشرائع ما ظهر منها وما بطن.

كما أنه ظل على الدوام ساحة كرّ وفرّ ومعارك ومآسٍ ودموع وهتاف وطرب ورقص ولطم وجلد وسحل وشرب وغياب حتى عن الوعي.

الهجرات توالت على العراق دخولا وخروجا، هروبا والتجاء، ولا أظن أن هناك «أما» ثكلى في هذه الدنيا أكثر من الأم العراقية، ليس في هذا الزمن فقط، ولكن في كل حقب التاريخ، الأم العراقية تلد لكي تفجع.

تمخضت تلك «البقعة» التي هي العراق عن أعرق حضارة مكتوبة ومرسومة ومنحوتة ومبنية ومدعومة بالحكمة والعقل، كما أنها كذلك وفي نفس الوقت تمخضت عن أعرق حضارة منكوبة ومهدمة ومحروقة ومغتصبة.

خرجت منها إحدى الديانات السماوية التي تؤمن بالتوحيد، ومنها هاجر إبراهيم عليه السلام، ولا أدري هل هاجر طوعا أم كرها؟! ولكنه بالتأكيد قد هاجر، وهذا لا يعنيني لا من قريب ولا من بعيد.

غير أنني أعود للأستاذ خالد الذي أقرأ كل كلمة يكتبها عن وطنه المنكوب الذي هاجر هو منه أيضا ولا أدري كذلك هل هاجر منه طوعا أم كرها؟! وهذا هو شأنه لا شأني، ولكنني عرفت من كلماته أن العراق في طفولته وصباه وشبابه كان أكثر عطفا وتسامحا وانفتاحا واحتواءً لكل مختلف الديانات دون أي حرج أو تساؤل.

وعرفت منه أن أصوات المؤذنين كانت ترتفع وتشق عنان السماء، في الوقت الذي كانت فيه نواقيس الكنائس تدق مذكّرة الخلق بالزمن الذي لا يتوقف ولا يترك الحال كما هو عليه أبدا، كما أن معابد اليهود والصابئة والزرادشتية وغيرهم تمتلئ بطالبي التطهر والخلاص، فالكل كان يغني على ليلاه على طريقته الخاصة.

والذي ذكرني اليوم بخالد وعذاباته هو ما قرأته في مجلة عتيقة بتاريخ 27 يوليو (تموز) سنة 1928 وجاء فيها بالحرف الواحد ما يلي:

«أقيمت في بغداد منذ أسبوعين حفلة تأسيس (المدرسة الخيرية الإسلامية للأيتام) التي تبرع بإنشائها وتكفل بجميع نفقاتها الرجل المصلح حضرة (مناحيم أفندي دانييل)، وقد حضر هذا الاحتفال جلالة الملك فيصل ملك العراق ووزراؤه وجمهور كبير من الأعيان والنواب وأفراد الشعب».

انتهى الخبر، وللمعلومية فهذا الأفندي الذي لقبه «دانييل» كان يهوديا صرفا، ولكنه أيضا كان مواطنا عراقيا صرفا، ولكي لا يعتقد أحد أن ما قام به كان نفاقا أو «مؤامرة صهيونية»، فهذا قد حصل قبل إنشاء إسرائيل بعشرين عاما بالتمام والكمال.

كان اليهود والمسيحيون يعيشون مع المسلمين دون أي تناقض، ويضخون في العراق كل إبداعاتهم، فأين هو العراق الآن مما كان؟!

لقد «طارت الطيور بأرزاقها»، ولم يبق سوى العمائم.

[email protected]