مشكلة جديدة لمسلمي بريطانيا

TT

أضافت جمعية إسلامية بنغلاديشية مشكلة جديدة لكومة مشكلات مسلمي بريطانيا بعد أن رفض المجلس المحلي لساري - هيث، في مقاطعة ساري جنوب إنجلترا، تصريح بناء مسجد ضخم بمئذنة عالية قرب أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية العريقة، بجانب اعتراض غالبية سكان المنطقة، ليس فقط من الإنجليز الأصليين، وإنما أيضا من عرقيات أخرى.وبمناصرة من الراديكاليين (المجموعة نفسها التي تثير دائما مظاهرات قبيحة الشكل تسيء إلى سمعة المسلمين بحملهم لافتات شتائم تنقلها كاميرات التلفزيون)، والفوضويين واليسار الطفولي (واحتجاجاتهم «عناد» في الحكومة ولا علاقة للإسلام بها، ككراهيتهم للعولمة والنظام الرأسمالي.. إلخ)، اتهموا المجلس - أعضاؤه متعددو الأعراق والأديان - بالعنصرية والإسلاموفوبيا (التعبير المركب من «إسلام» و«فوبيا»، أي الخوف من الإسلام، الذي دخل اللغة منذ 21 عاما ويكثر الراديكاليون الإسلامويون واليسار من استخدامه محاولين مساواته، في الأذهان، بمعاداة السامية).

وكما يتوقع أي قارئ متابع لهذه الاحتجاجات، ابتداء من حرق كتب لم يقرأوها والمطالبة بمنع عرض أعمال فنية لم يشاهدوها، لم يطلع معظم المحتجين على التصميمات الهندسية للمسجد، أو محضر جلسة البلدية (كانت علنية مفتوحة للجميع مساء الأربعاء) أو مذكرات المختصين، أو قوانين تنظيم البناء المحلية.

فبالإضافة إلى أن ضخامة المسجد المقترح بناؤه ومئذنته العملاقة كانتا ستطغيان - في نظر السكان المحليين والتجار الذين يرتزقون من السياحة - على الطابع الإنجليزي العريق للمكان، فإن أسباب رفض تصريح البناء كانت فنية وهندسية، وأيضا قانونية في بلد لا تستثني قوانينه أحدا حتى لو كانوا أبناء الملكة ولو مخالفة مرور بسيطة.

عمليا المسجد قائم، ومكانه صالة كبيرة في مدرسة قديمة، يستخدمه المسلمون للصلاة منذ 1996، عندما اشترت الجمعية البنغالية الخيرية لمقاطعات باركشير وهامبشير وساري المدرسة القديمة. والأرض التي شيدت عليها المدرسة عام 1860 كانت مقدمة كمنحة خيرية من الأكاديمية العسكرية الملكية لبناء المدرسة من أجل تعليم أطفال المنطقة. المدرسة كمعمار نموذجي للعصر الفيكتوري تشرف عليها هيئة التراث القومي الإنجليزية ومدرجة على قائمة الحماية من التغيير ضمن 200 موقع في المنطقة.

بناء المسجد الجديد يتطلب هدم المدرسة، بما تحمله من تراث قومي، واعترض السكان - بتشجيع حزب استقلال المملكة المتحدة الذي من أهدافه الحفاظ على الهوية والتراث والاستقلال عن الاتحاد الأوروبي - كما اعترضت هيئة التراث القومي مستشهدة بقانون حماية التراث القومي المعدل عام 1980، بموافقة برلمانية بالإجماع من دون اعتراض واحد.

الجمعية البنغالية لم تقدم ما يثبت أن عدد المسلمين في المنطقة، الذين قد يستخدمون المسجد المطلوب تشييده، بعد هدم المدرسة، يفوق أرقام المصلين الذين يسعهم المسجد الحالي.

وملكية أرض أو عقار وحدها لا تكفي لإدخال أية تعديلات معمارية على بناء أو حديقة ملحقة؛ فقطع شجرة يتطلب إذنا مسبقا من البلدية ولأسباب مقبولة. وأنا مثلا لا أشاهد أكثرية الفضائيات لاستحالة الحصول على إذن بتركيب صحن لاقط، لا على الواجهة ولا السطح ولا في الحديقة الأمامية - أما الخلفية فغير مناسبة لاتجاه الصحن - بمقتضى القانون نفسه الذي يصنف المباني في قوائم. (شارعنا كله في القائمة الثالثة التي تحرم أية تعديلات، ولو طلاء السياج على، المظهر الخارجي؛ فما بالك بمدرسة متعددة الأبنية والأبهاء من العصر نفسه؟). الجمعية البنغالية اشترت العقار بعد صدور القانون المعدل بـ16 عاما، ولا يمكن ادعاؤها الجهل به. فالقانون يلزم محامي مشتري العقار بمراجعة اللوائح والقوانين التي تؤثر على العقار ويقدم بها تقريرا لموكله قبل توقيع عقد الشراء، ولذا فليس هناك شك في علم الجمعية مسبقا بإدراج المدرسة على قائمة المعمار المحمي تراثيا.

فهل يمكن أن تسمح حكومة بلد كمصر، على سبيل المثال لا الحصر، بهدم ملمح تراثي كحارة الغورية ومدخلها باب السلطان الغوري لتوسيع ميدان مسجد الحسين الواقع أمامه أو بناء ملحق له لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المصلين؟ بل أجزم بأن مشيخة الأزهر الشريف نفسها ستعارض هذا التخريب.

وربما يذكر القارئ أنني كتبت أكثر من مرة عن تمزق قلبي حزنا على ما أصاب تراث الإسكندرية المعماري والثقافي من تخريب ودمار على يد مستثمرين عقاريين جشعين شوهوا وجه عروس البحر المتوسط بعمارات قبيحة الشكل والشأن معا. وحاولوا - استعباطا - تخليص ضميرهم ببناء مسجد تحت العمارة بدلا من كراج السيارات، وهي مساجد بلا مئذنة أو قبة، مكتفين بمكبر صوت يزعج المصلين قبل النائمين.

ولعل ولي العهد، الأمير تشارلز، هو الزعيم الفعلي الحقيقي لحملة حماية الآثار والمعمار البريطاني الكلاسيكي من مخالب المهندسين المعماريين الحديثين (وهم يكرهونه لذلك ويشنون عليه حملات التشويه في الـ«بي بي سي» و«الغارديان» وغيرهما من منابر اليسار). المسلمون يعرفونه ويقدرونه لدفاعه المستميت الدائم عنهم وعن الإسلام، وكتاباته العلنية وتصريحاته يشهدان بذلك، بل يعتبره غالبية مسلمي بريطانيا نصيرهم الأول. صحيح أن ولي العهد لم يدلِ بدلوه في هذا الخلاف الذي فجرته حفنة من البنغلاديشيين، لكنهم يعرفون في قلوبهم، كمسلمين، أن نصيرهم الأول لن يقبل أبدا بهدم تراث معماري لأي سبب من الأسباب.

وتأتي المشكلة التي فجرتها الجمعية البنغالية بعد أيام من زيارة نائب البرلمان الهولندي اليميني غيرت فيلدرز (حسب نطق الاسم والبعض يكتبه ويلدرز «Wilders» حسب الحروف المكتوبة) إلى وستمنستر وعرضه، في مجلس اللوردات، فيلم «فتنة» الذي اعتبره بعض المسلمين مسيئا لعقيدتهم. وكانت وزيرة الداخلية السابقة، جاكي سميث، قد استجابت لضغوط من المتشددين الإسلاميين (رغم تحذير اللورد أحمد وعقلاء المسلمين بتجاهل الرجل)، فمنعت فيلدرز من دخول بريطانيا بفيلمه العام الماضي، وأمرت بوليس مطار هيثرو بوضعه على طائرة «كي إل إم» إعادته إلى بلاده ليستقبله أعضاء «حزب الحرية» استقبال الأبطال.

اشتكى فيلدرز الوزيرة لمحكمة إنجليزية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وكما هو متوقع كسب القضية بينما اتهمت منظمات حرية التعبير الوزيرة «بتكميم حرية التعبير خضوعا للإرهاب».

وتظاهر اليساريون الأسبوع الماضي مع الراديكاليين الإسلامويين أمام البرلمان احتجاجا على عرض «فتنة» بدلا من تجاهله. فلم يشاهد الفيلم سوى نفر قليل من الباحثين وعمال التنظيف، فالبرلمان عادة خالٍ من الساسة والصحافيين بعد ظهر كل يوم جمعة. ولولا المظاهرات لما كان عرض الفيلم أصبح خبرا في بقية أوروبا التي تقدس حرية التعبير قبل تقديسها المسيحية وهي ديانة أغلبية سكانها.

المظاهرات وفتاوى إهدار الدم (التي تعتبرها القوانين الأوروبية تحريضا على القتل) حولت فيلدرز إلى بطل «شهيد» الدفاع عن حرية التعبير (الثقافة الغربية ترى اختيار المرأة لملابسها من دون ضغوط حرية تعبير عن شخصيتها) أمام مواطنيه الهولنديين، بدليل نتائج حزبه في الانتخابات المحلية الأسبوع الماضي.