في السلوك الانتخابي

TT

السلوك الملحمي لمجموع الشعب العراقي بتسجيله مستويات عالية من المشاركة في الانتخابات لم تعرفه دول مستقرة وأخرى تراكمت عندها التجربة الديمقراطية لقرون ولا تعيش انتقاصا، بل فقدان الضروريات الحياتية التي يعيشها العراقي، أو أن عليها أن تذهب للمفاضلة والاختيار بين طبقة سياسية جلها تنتظم وفقا لمصالحها وذاتياتها وتتساند لتعويم بعضها بعضا لا وفق مشتركات بينة أو برامج قابلة للتقويم والمساءلة، كل ذلك وغيره كان سيبعث على القنوط ويقود للعزوف عن المشاركة، فكيف عندما تختلط به تهديدات فعلية ومقتدرة بالتفجير والقتل، أسفرت عنها هذه المرة قوى العنف بعدم مماهاتها كما درجت «بمقاومة المحتل»، بل عنونتها بوضوح بهدف منع الانتخابات؟ وأسندت هذه التهديدات فجر يوم الانتخاب عندما استيقظنا على دوي انفجارات حقيقية وأخرى صوتية بقصدية إثارة الذعر، فقد فخخوا مسبقا عددا من البنايات وقاموا بتفجيرها، بناية تستأجرها عوائل فقيرة تفقد إحداها اثنين من أبنائها تودعهم وتذهب لتنتخب، وأخرى بعد أن أخرجها رجال الإطفاء من تحت الأنقاض تعود وتبحث عن أوراقها الثبوتية بين أنقاض بيتها المتهدم لتذهب وتنتخب، إنها صورة أجزم بأن لم يعرفها العالم، بل عرفتها فقط ديمقراطيتنا، التي هي بمزيج من الألم والفخر، تثبت دائما بأنها الأكثر كلفة.

ندخل بعدها لمحاولة تبين طبيعة التصويت أو السلوك الانتخابي، لا شك أن هذه الانتخابات مثلت خطوة متقدمة ببروز التيارات الوطنية، حيث أصبح المنهج الوطني أو الوعد به هو القاسم المشترك بين الكتل، رافق ذلك تغيير في بنية مرشحي الكتل وتحركها صوب أن تكون عابرة للمكونات والطوائف، وهذا أتى جزئيا من تحول في حاجات المرحلة ولفشل التخندقات الماضية بما أورثته من شلل في المنجز السياسي وتواضع في الأداء وتغطيات متقابلة وتسويات وترضيات في كل مفترق سياسي، وأيضا انسجاما واستجابة لتحولات الناخب التي عبر عنها في انتخابات مجالس المحافظات في مارس (آذار) الماضي عندما رجح وفضل الخيارات الوطنية. وكان ذلك التوجه سيظل يتيما، إلا أن تكرر الميل نحو الاتجاه الوطني، عبر عن بدايات نضج سياسي واعد لدى الناخبين، إذ إنهم كرروا التوجه ثانية نحو الخيارات الوطنية الداعية إلى دولة مدنية، وعزفوا عن تلك التي ذات الصبغات الدينية المراهنة والمستثمرة في الرمزيات والخطاب الطائفي والمستعينة بالشحن والمخاوف المذهبية، إذا السؤال الأخص بعد ما تقدم من عموم، هل الناخب غادر الطائفية؟ أي أنه بات يصوت وطنيا، وهل ستشهد خارطة نتائج الانتخابات انتقالات واسعة وتغييرا ملحوظا في خارطة التصويت بحيث لا تتطابق بالضرورة القوى السياسية مع الخارطة الطائفية؟ وهل تبلورت رموز وطنية عبرت المكونات واستقطبت بكثافة منها جميعا؟ الجواب بصراحة وبتفهم واقعي لتدرجية التحولات، لا.

ربما يرد على هذا النفي بظاهرة القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي، ولكن هذه القائمة لم تستقطب إلا المحافظات الغربية ومحافظات شمال بغداد وقسما من الجانب الغربي من بغداد، أي بعبارة أوضح، استقطبت السنة، مضافا لهم بعض النخب العلمانية الشيعية المتذمرة من الحاكمين ومن أداء السنين الماضية والراغبة في تغيير، وأيضا استقطبت تلك المهددة بالإقصاء والتهميش بذريعة احتسابها على النظام السابق، لذا أستطيع أن أستخلص استنتاجين عن طبيعة واتجاهات التصويت، الأول أنه قد تحرك ولكن داخل المكون الواحد، لقد انتقل من القوى الأصولية والتقليدية في كل مكون (طائفة قومية) التي كانت مهيمنة، لمصلحة القوى المدنية ذات المشروع الوطني أو التغييري كما عند الأكراد، ولم نشهد أي مغادرات في التصويت يعتد بها عابرة للمكون، والاستنتاج الثاني وأصل إليه عبر صيغة سؤال، هو لـم اكتسح علاوي أصوات السنة ولم يلق الخطاب والمنجز والوعد والبرنامج الوطني للمالكي استجابة عندهم؟

بدءا، إن علاوي ضم في تجمعه أبرز وأقوى الكتل والزعامات السنية. وثانيا، إنها نجحت في تحميل الحزب الإسلامي وزر كل الإخفاقات والتراجعات واعتبرته كبش فداء واجب التضحية به. وثالثا. أملت الناخب بالتغيير القادم، أما على مستوى علاوي، فإنه قدم زعامة علمانية كبديل أفضل عن الزعامات الإسلامية، وبما له من خلفية وتوجه قومي سيمثل قيادة تقف ضد النفوذ والتمدد الإيراني، فضلا عما يملك من امتدادات قوية مع المحيط الرسمي العربي، ولكن هذا الحكم كان يستوجب وقفة تقييمية، ومن زاوية أخرى، على مستويي القائمة والزعامة، فالمراهنة على صمود واستمرار وفاعلية القائمة كتكتل بعد انفضاض تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب الرئيسية مراهنة ضعيفة، لذا يعود الاستثمار في القائمة والتعويل عليها استثمارا قصير المدى، ثم إن أبرز قيادات القائمة كانت هي نفسها الزعامات الأساسية للحزب الإسلامي قبل تحولها، أما لجهة الوعد بالتغيير، فإنه يرد عليه أين كانت قيادات القائمة من ذلك وهي نفسها ماسكة لأهم مناصب السنة القيادية في الدولة (نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء)؟ هذا على مستوى المركز، أما على مستوى المحافظات فهي تحكم أكبر محافظتين سنيتين (نينوى والأنبار)، وتشترك في حكم أخرى صلاح الدين وديالى، أما على مستوى قيادة علاوي فيبدو أن الذاكرة هنا قصيرة، التي نست ضربه للفلوجة، وأنه رجل الأميركيين الأول لبيئة بشرية حرقت الأخضر واليابس في مقاتلتهم وتخوين رجالهم، أما على مستوى التغيير فإن حكومته كان بعض وزرائها ليس الأعلى فسادا في تاريخ الحكومات العراقية، بل في العالم! إذ تجاوز فساد أحد وزرائه المليار دولار نزولا لبعض من تواضع واكتفى بمئات وعشرات الملايين. إذا، ألا تصح مسألة التغيير؟ نعم، يراد بها تغيير ولكن على مستوى آخر، ذاك المختزن والمستبطن لأساس الصراع في العراق على السلطة، فقد تصور ووجد السنة أن فرصتهم سانحة في هذا التكتل، وبرأس حربته القوية علاوي القادر على اختراق الوسط الشيعي واستقطاب أصواته للإطاحة بالشيعية السياسية من الحكم، عبر التمكن من أن تكون الكتلة البرلمانية الأكبر، التي ستكلف برئاسة الوزارة وتمسك بالتالي السلطة الفعلية.

مع ذلك، يظل هذا الحراك إيجابيا لخصلتين: الأولى، أنه بداية تحرك داخل كل مكون دفع بالقوة الوطنية والمدنية للأعلى على حساب ارتكاس منافسيها التقليديين. والثانية، أن مساربه السياسة وصندوق الاقتراع وعبر المراهنة على التداولية السلمية للسلطة.