خناقة في شارع العروبة بين الديمقراطيين والخبازين

TT

الزائر لمصر والخارج منها لا بد أن يسلك شارع العروبة في طريقه من المطار أو إليه. وهو شارع آخر غير جامعة الدول العربية الشهير أو لعله الأكثر شهرة من جامعة الدول العربية التي لا يعرف مكانها معظم الزوار العرب والأجانب. هناك مشكلة في شارع العروبة منذ سنوات طويلة خاصة بعقار صغير في شارع جانبي. عرفت المشكلة طريقها إلى أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم غير أنها لم تحسم حتى الآن. العقار مكون من فرن وفوقه دور واحد يحتله الحزب الديمقراطي - فرع العروبة. أصحاب الفرن يزعمون أن العقار بأكمله ملك لهم ورثوه عن والدهم خباز أبو العيش الديمقراطي (في الغالب هو اسم الشهرة)، وأن أصحاب الحزب احتلوا الدور الوحيد بغير وجه حق، وأن والدهم المرحوم خباز سمح لهم باستخدام المكان بشكل مؤقت لأنه كان عضوا متحمسا للديمقراطية، غير أنه بالقطع لم يبعه أو يؤجره لهم.

وقاد المعركة في المحاكم نيابة عن الورثة الشاب لقمة القاضي (اسم حقيقي) كان يطلب طرد الحزب من العقار لأنه يحتل المكان بغير شرعية إلا شرعية وضع اليد. أما الحزب فقد صرح رئيسه، الذي أعترف بأني نسيت اسمه، في مناسبات كثيرة بأن مصلحة الأمة هي الهدف الأسمى لكل القوانين والتشريعات. وأن رغيف الخبز على الرغم من أهميته فإن الديمقراطية من المستحيل التفريط فيها من أجل رغيف الخبز. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. تستطيع أن تأكل أي شيء عندما تكون جائعا فتمتلئ معدتك وتشعر بالشبع فتواصل طريقك في الحياة. أما انعدام الديمقراطية فهي تهدد عقلك وروحك بل وشرفك الإنساني بالضياع.

لقمة القاضي خريج كلية العلوم السياسية والاقتصاد. وعلى الرغم من أنه وكّل محاميا ليترافع عنه في قضيته، فإن شهادته أمام المحكمة كانت أقرب للمرافعة البليغة الممتعة لدرجة أن الحضور والقضاة على المنصة كانوا يصيحون أحيانا.. الله.. الله.. أعد.. أعد..

قال لقمة القاضي في شهادته: أنا أيضا عاشق للديمقراطية مثل أبي رحمه الله. وكان بودي، دفاعا عن الديمقراطية، أن أتركهم يسكنون بيتي للأبد مجانا. غير أنني لم أتصور أنهم سيضعون الديمقراطية في مواجهة رغيف الخبز وكأنهم مذيع مبتدئ في فضائية يسأل الناس في الشارع: تفضل الديمقراطية أو رغيف الخبز؟ وكأنه يستحيل الجمع بينهما.. أنا لن أستسلم لهذا السؤال الخدعة بل سأنقل القضية بأكملها لأرض أخرى بعد أن اكتشفت أن ما نبحث عنه في بلادنا ونسميه الديمقراطية ليس هو بالضبط ما نحن في حاجة إليه.

ما نظنه الديمقراطية ونؤمن بأن الوصول إليه سيكون فيه الحل لكل مشكلاتنا. هو ما أسميه أنا - وأرجو أن توافقوني على ذلك - الإدارة الرشيدة.. الديمقراطية هي المحطة النهائية بالفعل، غير أن الإدارة الرشيدة سابقة عليها ومن المستحيل أن تكون تالية لها. من المستحيل أن تركب القطار في طريقك إلى الإسكندرية بغير أن تمر على طنطا. من المستحيل الوصول إلى الديمقراطية بغير المرور بمرحلة الإدارة الرشيدة التي تفصل فصلا صارما بين السلطات الثلاث. وتضمن لكل سلطة منها على حدة أن تمارس عملها في مواجهة السلطات الأخرى في إيقاعات مناسبة تضبطها الدولة.. من المستحيل منع الأخطاء أو الفساد في الحكومات منعا مطلقا. غير أن آليات كشفها لا بد أن تتحرك بالإيقاعات المناسبة لكشفها ومحاسبة أصحابها. الإيقاعات البطيئة تصنع عروضا مسرحية مملة. أما في الدولة فهي تمد في عمر الفساد والفاسدين بما يدفع الناس إلى اليأس والتعاسة، وبالتالي يفقدون الأمل في تحقيق الديمقراطية ويحلمون بدكتاتورية يأملون في أن تحميهم.

الإنسان الفرد المريض عندما يدخل إلى المستشفى العام يطلب علاجا، فهو لا يبحث عن طبيب ديمقراطي بل طبيب يؤدي واجبه في ماكينة الدولة. وهو عندما يدخل إلى قسم الشرطة، فهو لا يحلم بمقابلة سقراط بل بأن يستقبله ضابط شرطة يؤدي واجبه ويعامله بالاحترام الواجب. الإدارة الرشيدة لا تفترض أن العاملين في جهازها الإداري يعملون بدافع من حبهم للوطن أو الديمقراطية. بل لا بد من إلزامهم من خلال أجهزتها الرقابية بالالتزام بواجبات وظائفهم. هناك حقائق علي الأرض لا بد من احترامها مهما كانت مؤسفة. ومنها أن الناس تعمل بدافعين. الرغبة أو الرهبة. بارك الله في كل هؤلاء الذين يعملون بدافع من الرغبة. أما هؤلاء الذين يعملون بدافع من الخوف فلا بد أن تخيفهم الدولة بقوانينها وإداراتها الرقابية.

نحن في حقيقة الأمر لا نشكو من نقص الديمقراطية أو انعدامها. نحن نشكو من ضعف الإدارة وأحيانا عجزها.. يا حضرات المستشارين.. خصمي العزيز رئيس حزب ديمقراطي. وكل الأحزاب ديمقراطية واشتراكية في آن واحد ويا لها من معجزة فشلت في تحقيقها كل الدول الاشتراكية رحمها الله. خصمي لا يعرف شيئا عن رغيف الخبز ويتصور أنه مجرد قمح معجون بالماء أنضجته نار الفرن.. لا يا سيدي.. هو ليس طعاما يؤكل بل هو رمز لأحوال المعيشة في الأمة. هل تتصور الحضارة الفرنسية بغير الرغيف (الباغيت)؟ من المستحيل الفصل بين رغيف الخبز المتاح للناس وطبيعة الإدارة فيها. والرغيف أيضا مصدر من مصادر البهجة في المجتمع. العجائز الذين أعرفهم حكوا لي عن أحاسيسهم الحلوة القديمة وذكرياتهم الجميلة مع الرغيف القديم ولا أحد فيهم حدثني عن الديمقراطية.

ألا يلفت نظر سيادتكم تلك السرعة الغريبة التي تحولت فيها الدول الشيوعية بكل ما كانت تعانيه من استبداد، إلى الديمقراطية والاقتصاد الحر؟

بالطبع مروا جميعا بمرحلة من الاضطرابات الشديدة والفساد، غير أنهم تمكنوا بسرعة نسبية من تجاوزها. الواقع أن ذلك حدث بسهولة لأنهم جميعا كانوا محكومين بإطار إداري محكم. نفس الإدارات التي عملت من قبل في خدمة حكومات استبدادية. عملت بنفس كفاءتها في خدمة حكوماتها بأفكارها الحرة الجديدة. بل إنه من المدهش أن قادة روسيا الآن كانوا عاملين في أجهزة الدولة الأمنية السوفياتية وعلى رأسهم السيد بوتين ومن قبله غورباتشوف. هكذا نستطيع أن نقول باطمئنان إن الإدارة الرشيدة مرحلة حتمية للوصول إلى الديمقراطية وبذلك يكون حديثنا الدائم عن الديمقراطية في غياب إدارة رشيدة. ضياع للوقت وضياع للهدف وهو أن يتمتع الإنسان الفرد بحريته في الإبداع في كل مجالات الحياة المختلفة في حماية القانون.

انتهت شهادة صديقي لقمة القاضي الخباز المثقف وأصدر القاضي حكمه بطرد الحزب الديمقراطي من المبنى. غير أن رئيس الحزب استشكل في تنفيذ الحكم ومرت أعوام وأعوام ما بين استئنافات واستشكالات. وذات يوم مررت علي لقمة للتحية والسلام فوجدت الفرن مغلقا. وكان هو جالسا أمامه سألته بفزع عما حدث فرد علي بهدوء وهو يجذب أنفاسا من الشيشة: لا.. لم أخسر القضية.. إنها أزمة السولار.. هل تصدقني الآن عندما أقول لك إن مشكلتنا هي إدارية بحتة؟