لا تصادقوا أبناءكم

TT

هو رجل غريب الأطوار، حضرت مجلسه الحافل بشتى الأصناف من الناس، وكان الحديث ينصب في مجمله على (التربية) - أي الطريقة المثلى لتربية الأبناء - وكان من ضمن الحضور دكتور في علم النفس، وأخذ الدكتور يتكلم (ويشرّق ويغرّب) في النظريات والجميع يوافقونه تقريبا على ما يطرحه من منطق.

وكنت الوحيد على ما أظن الذي لم يفهم شيئا مما قاله الدكتور، لأن ليس لي في التربية ناقة ولا جمل، ولا باع ولا ذراع ولا شبر ولا فتر، بل ولا حتى إصبع، ولو كان لي من ذلك الأمر شيء لربيت نفسي أولا، ولو أنني فعلت ذلك لقال لي كل من يعرفني: «يا مدبّر العربان دبّر نفسك»، ولكنت أخرجتها من بوتقة التخلف السلوكي الذي أرفل فيه عن سابق عمد وإصرار.

كان صاحب المجلس طوال المناقشة صامتا وبرما ومتجهما مثلي أنا تماما، غير أنني تفاجأت به ينفجر دون مقدمات ويقاطع الدكتور وهو يخاطبه بصوته الجهوري:

إن كل ما تتحدث يا سعادة الدكتور من كلام مثالي كله (خرطي × خرطي) - أي كله كلام فاضي - إذ إن على كل أب أن يطعم ابنه ويكسوه ويسكنه ثم يتركه وشأنه (للهاوي والذيب العاوي)، على حد تعبيره.

الواقع أنني ما إن سمعت نظريته هذه حتى (فغرت فمي) تعجبا، وسألته مستغربا: كيف؟!

فقال: إن دوري ينتهي عند ذلك، وعندما يدخل ابني المدرسة عندها يبدأ دور المدرّس الذي يعلمه الحساب والتاريخ والجغرافيا واللغات (والذي منّه).

ثم استطرد قائلا: إن الإنسان هو الذي يمنح ذاته التوازن النفسي والعاطفي، وإنني لا أستغرب أبدا إذا أتاني ابني يوما وهو مضروب وممزق الثياب ومدمى الأنف ومتورم العين، فمثل هذه التجربة هي التي تصقله عمليا وتعطيه الحصانة، وتجعله رجلا (بحق وحقيق).

وزاد الطين بلّة عندما التفت إلينا قائلا: إن أولئك الآباء الذين يهتمون بأبنائهم مثلما تحدث سعادة الدكتور، إنما هم آباء مجانين، نعم مجانين، فمشكلة ابن التاسعة يحلها إذا بلغ الخامسة عشرة، ومشكلة ابن السادسة عشرة سوف يحلها عندما يبلغ العشرين من عمره، وإنني أعلنها بالفم المليان: إن شدة اهتمام الآباء بأبنائهم المراهقين ما هي إلا مفسدة وأي مفسدة، وإذا كان المراهقون أشقياء فدعوهم ولا تتدخلوا في حياتهم، دعوهم ينزعون الأشواك من أيديهم بأيديهم، لقد أسرفنا كثيرا بتوفير الأمان لهم.

لقد انقلبت الطاولة علينا في هذه الأيام، فبدلا من أن يسترضي الأطفال آباءهم، أصبح الآباء اليوم هم الذين يحاولون استرضاء أطفالهم، فينبغي علينا أن نشعرهم بالإهمال والقلق، ونحسسهم أنهم غير محبوبين وغير مرغوب فيهم، وصدقوني إنهم بعد تلك المعاناة سوف (ينخّون) ويأتون صاغرين يقدمون لنا فروض الولاء والطاعة.

نعم، نعم، لا تكونوا أصدقاء لأبنائكم، فما هي حاجة مراهق في العشرين من عمره إلى صداقة رجل في الخمسين من عمره؟!، تذكروا أننا لا ندين لأبنائنا بأي فضل، قال ذلك ثم سكت.

وران على المجلس صمت ثقيل، لم يقطعه غير دخول شاب مراهق يمضغ (العلكة) والسلاسل متدلية في عنقه، وجلس في مواجهة والده واضعا رجلا فوق رجل، وكان طوال الوقت يطقطق بأصابعه، وعرفت فيما بعد أنه ابن لذلك الرجل (الحمش).

[email protected]