الاحتفال بالانتصارات الوهمية!

TT

أثار مقالي عما حدث في دبي في عملية اغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح، والمعنون «يتجسسون علينا بفلوسنا»، عن الاستخدام المزدوج للتكنولوجيا، وعن حملة الترويج لأجهزة الكاميرات التلفزيونية وأنواع السوفت وير المختلفة التي تبيعها الشركات الغربية للعربان، أثار ضجة مزعحة. لذا يجب أن نضع بعض النقاط على الحروف. بداية، الهدف من هذا المقال ليس مجرد رد فعل لتعليقات أصدقائنا (حريص أنا على علاقتي بهم)، ولكن الهدف هو وضع النقاط على الحروف من أجل التعلم من تجاربنا، وليس الدخول في جدل مع أو ضد، نريد أن نرقى إلى مستوى الاحتراف في نقاش القضايا الحساسة والجادة. معظم ردود الأفعال جاءت من منطلق أن المقال كان تقليلا من أهمية ما قامت به شرطة دبي، ومن قرأ المقال بجدية يدرك أنني ذكرت في مقالي وبتركيز شديد عبارة «دونما التقليل من دور شرطة دبي، وكفاءة من يعملون فيها». لكنني قلت أيضا إنه و«كما أن هذه الصور إنجاز، هي كذلك طعم، مثل الذي يطعم للسمك، حتى يقترب من الصنارة أو يدخل الشباك، أو تقع الفريسة في الفخ». ومع ذلك فالرد الصادم جدا على هذا النوع من الاحتفال بالانتصارات الوهمية، هو أن شرطة دبي لم تقم إلا بإدارة جهاز تسجيل الكاميرات الذي أرانا ما سجلته الأجهزة. ولو كان هناك دور لشرطة دبي، كانت قبضت على المجرمين قبل مغادرتهم المطار، فلا يكفي أن تقول لنا شرطة دبي انظروا، لقد نفذوا الجريمة وها هم يغادرون المطار على رحلات متجهة لدول غربية. لماذا لم تستطع شرطة دبي القبض على أي من أفراد العصابة إذا كانوا بالفعل يترقبون وصولهم ويعرضون لنا صورا من بداية دخول الجناة إلى دبي إلى خروجهم من مطارها؟ إذا كانوا يعرفون كل هذا، ولم يفعلوا شيئا وتركوهم يخرجون بسلام، فهذا يثير أسئلة أكثر مما يطرح أجوبة.. هل الذين شاهدوا الفيديو ويعرفون كل حركات الجناة وتصرفاتهم، هم ضالعون في الأمر؟ ليس هناك عاقل يقول بذلك. مهم أيضا أن نعترف بأن القدرة التحليلية لشرطة دبي للمادة المستقاة من الأشرطة هي مصدر فخر لنا، ولكن العمل الشرطي المرتبط بالمنع أو القبض على الجناة لم يكن موجودا في هذا المشهد.

ثم لماذا، ولو بعد حين من وقوع الجريمة، لم تستطع شرطة دبي اضطرار واحدة من الطائرات المغادرة والتي تحمل الجناة على الهبوط في أي مطار في الدنيا، كما فعلت إيران في الأسابيع الماضية مع المعارض الإيراني، عبد الملك ريغي، زعيم حركة جند الله البلوشية في إيران؟ شرطة دبي لم تفعل شيئا سوى أنها «فرجتنا على الصور» بعد وقوع الحدث، مثلما حدث أيضا مع قاتلي المطربة اللبنانية سوزان تميم. العمل الشرطي في هذه الحالة الثانية قامت به الأجهزة المصرية وليس شرطة دبي، من حيث القبض على الجناة والتحقيق معهم. شرطة دبي لم تقبض على مجرم في قضية كبرى حتى الآن، وأي دفاع ضد الحقائق هو تهريج. لليوم هناك ثلاث جرائم من الوزن الثقيل حدثت في دبي ولم يتم القبض على الجناة على أراضي الإمارة، مقتل الزعيم الشيشاني، وسوزان تميم، وأخيرا المبحوح.

الحقيقة المرة هي أن كل الصور التي صورتها الكاميرات، رغم أهميتها في المستقبل، إن كانت المجموعة قد تركت أثرا يدينها بالاغتيال، هي بمثابة دعاية للموساد، لا دعاية لشرطة دبي، ففيها يتضح أن المجرمين نفذوا عمليتهم، وخرجوا بسلام دونما أي خسارة تذكر بالنسبة لهم. أي أن العملية من زاوية من خططوا لها تمت بنجاح، مصحوبة بقدر عال من الدعاية ومن خلال الكاميرات.

مهم أن نقول إن كل التصوير الذي رأيناه لم يرنا مشهد الاغتيال ذاته، الصور لبشر قادمين وذاهبين، ولا اغتيال رأيناه في الصور، فقط سمعنا صوت المعلق وهو يعرض الأشرطة ليقول «والآن قتلوه وخرجوا»، ولم نر أي صور للقتل. كانت هناك في الشريط كل الصور غير المهمة، ولم تعرض لنا شرطة دبي الصورة الوحيدة لمشهد الاغتيال.

وإذا ما قارنّا ما حدث في دبي بعمليات صغيرة قام بها العرب ضد الموساد، هناك محاولة اغتيال السيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، حيث أجبرت الأردن إسرائيل على الإتيان بالمصل المضاد، بينما احتفظت الأردن بالجناة داخل أراضيها. النرويج أيضا استطاعت القبض على عملاء الموساد عندما قاموا بعمليات على أراضيها. ما حدث في دبي هو شو إعلامي قد يكون له دور مهم في خلق أزمة دبلوماسية بين الدول صاحبة جوازات الجناة وإسرائيل، وهي «أزمة وستمر»، نتيجة لعمق التعاون الاستخباراتي بين إسرائيل وهذه الدول صاحبة جوازات السفر، فيما يخص قضايا الشرق الأوسط. الذي تغير فقط هو الرأي العام في الغرب تجاه إسرائيل بعد أحداث غزة الأخيرة، أما رأي الحكومات والأجهزة، فما زال على حاله.. ما عدا ذلك، فلا جديد تحت الشمس.

على مستوى العمليات الكبرى نقول إن الهزيمة الكبرى التي مني بها جهاز المخابرات الإسرائيلي على يد أجهزة عربية كانت في حرب 1973، حيث فشل الموساد في كشف موعد تلك الحرب رغم كل عملائه المزروعين في المنطقة. لذا لا يجب أن نخلط الانتصارات الحقيقية الكبرى على هذا الجهاز الخبيث، بانتصارات وهمية تلفزيونية، كما رأينا في حالة دبي التي خرج منها الجناة سالمين غانمين بعد إتمام عمليتهم بسلام.

ليس كافيا أن تكون لدى الدولة أجهزة مراقبة وكاميرات، لكن المهم هو وجود قوة حقيقية قادرة على ضبط الجناة، وتحويلهم إلى المحاكمة على أراضيها، فهم من دول أخرى، وهذا خارج قدرات الإمارة. قدرة الدولة تأتي من خلال القبض على الجناة، وهذا ما فعلته بريطانيا في قضية تفجير القطارات، الكاميرات والصور أدت إلى القبض على الجناة، وليس مجرد عرض «لشريط فيديو أو شو». المحك الحقيقي في عمل أي شرطة في العالم هو منع الجريمة من الوقوع أو القبض على الجناة بعد ارتكاب الجريمة، وهذا ما لم يحدث في دبي. خلط الحقيقة بالوهم في موضوع اغتيال المبحوح، والنظر إلى الصور وكأن الجناة قد قبض عليهم، أو أن ما عرض هو متابعة دقيقة للجناة حتى تم القبض عليهم، يعني أن البعض منا قد أدخل أشياء غير قانونية قبل مشاهدة الفيديو. ما رأيناه هو فيديو دعاية للأجهزة والشركات المصممة للسوفت وير ولكاميرات المراقبة، كذلك دعاية للموساد وكيف أنه نفذ عملية بهذا الحجم وهذا العدد الكبير من العملاء، دونما وقوع أي منهم في قبضة شرطة دبي. حسب قول قائد شرطة دبي، زرعت إسرائيل عددا كبيرا من العملاء في دبي، فأين هم، ومن هم، ولماذا لم تقبض الشرطة على واحد منهم حتى الآن؟. ما قاله الفريق ضاحي خلفان يشبه ما كانت تقوله شرطة قبرص أيام أن كانت الجزيرة الصغيرة، التي تشبه دبي من حيث الانفتاح وصغر الحجم، ساحة للصراع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.. والسؤال الاستراتيجي هنا هو: هل تتحول دبي إلى قبرص السبعينيات، وتكون ساحة تصفيات، إذا ما كان للموساد فيها كل هذا العدد من العملاء؟ في النهاية بجب على العرب شيئين: الأول هو أن تحترم الحركات مثل حماس الدول التي يحاولون العمل من أراضيها، وإعلامها بالأمر حتى توفر الدولة لهم الحماية، وهذا ما لم تفعله حماس في دبي. الأمر الثاني هو أن نحلل الأمور بدقة من أجل استخلاص دروس مستفادة مما حدث. ما حدث في دبي مهم كإنذار للدول العربية الأخرى، لكن ليس هذا كل ما في الأمر. أما بخصوص الجانب التكنولوجي والفني من القضية التي طرحتها في المقال السابق، والتي وضعت لها عنوان «يتجسسون علينا بفلوسنا»، فلهذه النقطة الفنية مقال مستقل، مبني على المعلومات، أعد به القارئ قي مقال لاحق. وفي النهاية، أعرف أن مثل هذا النوع من المقالات لا يكسبني أصدقاء، ولكن لا بد أن نكون أمناء مع أمتنا في توضيح الحقائق كما هي دونما تجميل.