صحراء بايدن الخالية

TT

بدا خطاب نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن في إسرائيل في الحادي عشر من مارس (آذار) وكأنه بيان رسمي أميركي يقدم دعما مطلقا واضحا وصريحا لكل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، باعتبارها كيانا يمثل طموحات الصهاينة اليهود وغير اليهود خلال أكثر من ستين عاما ضد المدنيين العزل في فلسطين بما في ذلك المجازر والاغتيال وهدم المنازل والحروب الوحشية التي رافقت كل الأعمال الإرهابية الصهيونية.

خطاب بايدن مليء بالمغالطات التاريخية التي وضعت هدفا أساسيا لها، ألا وهو تلميع صورة الصهيونية الملطخة بدماء الأبرياء من المدنيين وخاصة الأطفال، كما أنه قدم أوراقه لإسرائيل كصهيوني، مدعيا شرف خدمتها، والافتخار بـ«إنجازاتها»، وأهمها حرمان خمسة ملايين فلسطيني من الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. لم ينافق بايدن، ولم يداهن كعادة السياسيين الغربيين، بل كان واضحا وشفافا.

قال بايدن: «قلت في خطابي قبل سنوات إنني لو كنت يهوديا لكنت صهيونيا. وقد واجهت العديد من الانتقادات جراء ذلك، إلى أن تذكرت ما قاله يوما لي والدي بأنك لست في حاجة لأن تكون يهوديا كي تكون صهيونيا». ولا أعلم ما هو مجال الفخر لنائب الرئيس بأن يكون صهيونيا، وما هي «الإنجازات» التي حققتها الصهيونية، والتي يرغب بشرف الانتماء إليها، أهي تهجير ملايين الفلسطينيين من وطنهم الأم فلسطين، وسجن ملايين آخرين منهم في السجن الكبير الذي اسمه إسرائيل، حيث يتعرضون يوميا إلى التطهير العرقي والاعتداء على مقدساتهم وسجن وقتل أطفالهم ونسائهم وشيوخهم. ثلاثمائة وواحد وعشرون طفلا تعتقلهم إسرائيل؛ تهمتهم الوحيدة هي إلقاء الحجارة على مستوطنين مسلحين اقتحموا أحياءهم ومنازلهم وأهانوا كراماتهم، وقتلوا أهليهم. وها هم أهل غزة يعانون الجوع والمرض والفقر، بعد حرب وصفها كل المحققين بالجريمة ضد القانون الدولي الإنساني، ومع ذلك تستمر إسرائيل حتى في منع وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي وآخرين من زيارة القطاع، كي لا ينكشف الوجه الحقيقي للصهيونية الإسرائيلية، وجرائمها العنصرية التي ترقى إلى هولوكوست القرن الواحد والعشرين.

نائب الرئيس بايدن، يرى تاريخ إسرائيل بأنه «قصة إنجازات رائعة في منطقة من الصحراء الخالية»، فمتى كانت فلسطين صحراء خالية؟ أوليست هي أرض الحليب والعسل التي طالما طمع بها الغزاة، فجاءوا إليها بالجيوش.. كالرومان والصليبيين والصهاينة؟ أوليست هي مهد السيد المسيح والأنبياء والرسل؟ هل كانت يوما صحراء خالية، أم جزءا من حضارات عربية عريقة، تعلم منها الغرب التجارة والرياضيات، العمارة والكهرباء، الفنون والآداب؟ أولم تكن القدس العربية محجا لأصحاب الديانات السماوية الثلاث على مدى قرون، وكأن نائب الرئيس لم يشهد أشجار الزيتون المعمرة منذ مئات السنين في فلسطين، كأنه جاهل بألوان الأدب والحرف والفنون التي طورها الفلسطينيون على مدى قرون؟! والتي نقلها عنهم الصليبيون عندما انعكفوا عائدين إلى أوروبا المغرقة بالتعصب والجهل.

ويهاجم نائب الرئيس العرب جميعا من دون تمييز بين الممانعين والمسالمين، بأنهم «الأعداء الذين يدعون إلى تدمير إسرائيل، بينما تواجه إسرائيل كل يوم وبشجاعة، أخطارا لا ينبغي لأحد أن يتحملها»، مضيفا «إن أميركا تقف مع إسرائيل جنبا إلى جنب في مواجهة جميع الأخطار والتهديدات»، وكأن بايدن لا يعرف أن للعرب مبادرة سلام شامل ودائم، وأنه أهمل أن مصر والأردن سالمتا إسرائيل منذ عقود، بدون أن تتوقف هي عن العدوان على جيرانها. لقد أهمل بايدن الوجود العربي كله، فهم «صحراء خالية»!! لم يستطع بايدن المتفاخر بصهيونيته أن يرى العرب، ولذلك لم يرَ أن الخطر الوحيد في المنطقة هو العدوان الإسرائيلي المتواصل على الفلسطينيين وعلى جيرانهم العرب، فإسرائيل هي التي تحتل أراضي العرب بقوة الدعم الأميركي، وهي التي تدمر المنازل الفلسطينية يوميا بالجرافات التي سحقت عظام المواطنة الأميركية راشيل كوري، لأنها حاولت بجسدها الطاهر أن تحمي منزلا فلسطينيا من الهدم، وإسرائيل هي التي تسجن أكثر من مليون ونصف مليون مدني فلسطيني في غزة، مرتكبة بذلك جريمة عقوبة جماعية يعاقب عليها القانون الدولي، وإسرائيل هي التي تنتهك المقدسات الإسلامية، وقواتها هي التي تعتدي كل يوم جمعة على المصلين في المسجد الأقصى. كان بايدن صريحا مع أصدقاء أميركا من العرب حين أعلن بصوت عال وقوف أميركا مع إسرائيل في كل ما ترتكبه من جرائم بحق العرب في فلسطين والجولان وجنوب لبنان!

يعتبر بايدن أن سامعيه من الغباء ليصدقوا أن ما بين إسرائيل والفلسطينيين مجرد «اختلافات في وجهات نظر»، واصفا بذلك صراعا يمتد منذ أكثر من قرن على حقوق تاريخية للعرب تصادرها إسرائيل بالقوة مدعومة دون شروط، حسب قول نائب الرئيس بايدن، من قبل الولايات المتحدة لاجتثاث حضارة وشعب، ومن ثم الادعاء بأن إسرائيل قامت على «أرض صحراء خالية».

أي عنصرية ووحشية يمتلكها الصهاينة عندما يعتقدون أن فلسطين «صحراء خالية»؟ هل يعتقد بايدن أن خمسة ملايين فلسطيني غير موجودين؟ هل يشجع بايدن حكام إسرائيل على إبادتهم؟ وبعد كل ذلك لا يتردد نائب الرئيس في الدعوة إلى تحقيق «السلام والأمن للإسرائيليين» وحسب، لأنه صهيوني، ولأنه يرى فلسطين «صحراء خالية»، فإنه لا يدعو إلى تحقيق السلام والأمن للفلسطينيين.

ولا شك أن نائب الرئيس الأميركي لم يقرأ عن الطفل حسن المحتسب الذي وضع في قفص الاتهام في محكمة صهيونية، وهو في الثانية عشرة من عمره، وحين أعطته محامية إسرائيلية بالونا أحمر أخذ يلهو به، كما أن نائب الرئيس، لم يقرأ عن دهس أطفال فلسطين يوميا من قبل أصدقائه الصهاينة، وهو ربما يؤيد أيضا قيام الصهاينة باعتقال الأطفال وهم نيام في القدس.

ولم يذكر نائب الرئيس من أسرى الطرفين سوى جلعاد شاليط، أما الأحد عشر ألف أسير فلسطيني، فهم جزء من «الصحراء الخالية» التي لا يستطيع بايدن المتفاخر بإنجازات رفاقه الصهاينة أن يراهم، ولذلك لا قيمة لحياتهم ومعاناتهم في نظر نائب الرئيس.. لا، بل إنه قرر أن حماس هي التي حكمت على سكان غزة بالبؤس، في الوقت الذي أصرت فيه كل التحقيقات والتقارير الدولية، من تقرير القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون، وتقرير ريتشارد فولك ممثل منظمة حقوق الإنسان في غزة المرفوع إلى مجلس حقوق الإنسان، بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في غزة، واستخدمت أسلحة محرمة، أرسلها بايدن وأمثاله من صهاينة أميركا، ضد السكان المدنيين العزل، وأعطت الضوء الأخضر لجيشها لقتل المدنيين العزل، وهدمت المدارس والمنشآت فوق رؤوس أصحابها وارتكبت خروقات شنيعة ضد القانون الدولي، هذه هي «إنجازات» إسرائيل التي يتفاخر بايدن بالانتماء إليها.

ولكن ومن ناحية أخرى، إذا كان بايدن يفاخر بصهيونيته، رغم أنه ليس يهوديا، ويغالط حقائق التاريخ والجغرافيا، ليبرر دعمه للجرائم المرتكبة بحق المدنيين العزل في القدس ونابلس والخليل وغزة الواقعة حسب بايدن في «الصحراء الخالية»، فأين هم حكام الدول العربية والإسلامية؟ وأين هي غيرتهم على إخوانهم المسلمين؟ وعلى أولى القبلتين المسجد الأقصى؟ أم تركوا الأمر لأطفال القدس الذين يتعرضون لإذلال كلاب جنود احتلال عنصري بغيض، كي لا يقال إنه لم يدافع أحد عن المسجد الأقصى؟ ولماذا لا تتخذ منظمة المؤتمر الإسلامي، وكل دولة إسلامية فعلا رادعا ضد إسرائيل، وضد كل من يدعون شرف دعم جرائم إسرائيل، وضد طغاة عنصريين لا يخجلون من الادعاء بأن أرض الأنبياء والحضارات والعسل «صحراء خالية».

يتخاصم ممثلو الدول العربية لساعات على تعبير كي لا يزعجوا إسرائيل وحلفائها الصهاينة، وينتهون إلى اعتبار مصادرة الأرض العربية «وحدات استيطانية»، وإلى اعتبار التطهير العرقي للفلسطينيين «تغييرا في الديموغرافيا»، وإلى اعتبار الاعتداءات الوحشية على المصلين الفلسطينيين العزل في الأقصى وحرمه «اشتباكات» بين قوات الاحتلال والفلسطينيين، واعتبار الاعتداءات الإسرائيلية البشعة على الأطفال والنساء العزل في أحيائهم مجرد «مواجهات»!!!

أولا يكفي خطاب نائب الرئيس الأميركي، الذي شعر بالامتنان لأن رئيس وزراء الكيان، قرر تغيير توقيت الإعلان عن بناء مزيد من المستعمرات إلى وقت لا يكون هناك زائر أميركي، واعتبر ذلك إنجازا وتقدما يستحق الشكر والعرفان.

إن هذا المنظور الصهيوني، الذي هو في جوهره إلغاء للعرب وحقوقهم من الوجود، يستحق وقفة عربية تمد يد العون لأبناء فلسطين الذين استبسلوا في الدفاع عن قضية الحرية والعدالة، والذين يدافعون عن شرف الأمتين العربية والإسلامية في زمن يفخر فيه مساندو كل هذا الإجرام بصهيونيتهم التي تقود إلى حرب إبادة عنصرية بشعة ضد شعبنا وتراثنا ومقدساتنا وتاريخنا ومستقبل أجيالنا.

إذا كان بناء خمسين ألف وحدة استعمارية في القدس الشرقية، لا يستحق وقفة حازمة من قبل كل المسلمين، ولا يستحق سحب سفراء، ولا يستحق تغيير التاريخ، فما الذي يمكن أن يستحق من العرب والمسلمين ذلك؟