أيام استذكار الشهداء وسط ازدواجية المعايير

TT

«أفضل للمرء أن يموت واقفا على أن يعيش راكعا»

(دولوريس إيباروري، المناضلة الإسبانية الراحلة)

أيام، بل ساعات استثنائية عاشها ويعيشها لبنان، تعيد شعبه بالذاكرة إلى ثلاث جرائم غيّبت ثلاثة من أكبر رجالاته، هم كمال جنبلاط، ثم الإمام موسى الصدر، ثم رفيق الحريري.

اللبنانيون يستعيدون ذكرى اغتيال كمال جنبلاط لأنها وقعت يوم 16 مارس (آذار) 1977. أما الإمام الصدر فيستعيد اللبنانيون ذكرى «تغييبه» بمناسبة قرب انعقاد القمة العربية في ليبيا وإصرار القوى الشيعية الرئيسة في لبنان على مقاطعتها، لأنها تتهم القيادة الليبية بـ«تغييبه». وأما رفيق الحريري فباقٍ في قلب الأحداث بمناسبة الاحتفال أمس بذكرى «14 آذار» التي شكلت مفصلا سياسيا في حياة لبنان بعد شهر واحد من اغتياله يوم 14 فبراير (شباط) 2005.

كمال جنبلاط اغتيل عام 1977 قرب حاجز للقوات السورية في قلب معقله السياسي، منطقة الشوف، غير أن تفاصيل الجريمة البشعة وهوية الجناة طُمِست قرابة ثلاثة عقود. وكان أبلغ ما قيل فيها يوم تشييعه كلام ذُكر أن شيخا من إحدى القرى وجهه إلى الزعيم وليد جنبلاط، نجل الفقيد، جاء فيه: «يا وليد بك، ليس لدينا مصلحة في معرفة مَن قتل كمال بك!». ومع أن أمورا كثيرة كشفت خلال السنوات القليلة الماضية عن ملابسات الجريمة، فإن تبدّل المناخ السياسي والأمني في لبنان جعل «من المصلحة» - من جديد - تجهيل الفاعل وطمس تفاصيل الجريمة لتفادي ما هو أسوأ وأدهى.. سواء لعائلة الفقيد الكبير ولطائفته ولخطه السياسي التقدمي وللبنان ككل.

فاليوم في ظل الاختلال الاستراتيجي المحيط في لبنان، والدور الإسرائيلي المدمّر والمتواطئ والخطير ضد مشروع بقاء لبنان وقيام الدولة فيه، يقرأ البعض المواقف - المعلنة والمبيّتة - بكثير من القلق، ويُستنتج كيف يُعاد تفويض القوى التي طالما راهنت عليها إسرائيل والولايات المتحدة لتصفية القضية الفلسطينية التي كان كمال جنبلاط أحد كبار شهدائها.

من ناحية ثانية، كانت جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في تفجير مروع، قبل خمس سنوات، الزلزال الذي أوجد على الأرض في لبنان وضعا غير مسبوق. فقد أقنع الطيف الأوسع من اللبنانيين - وبالذات، من السنة والدروز - باستحالة مواصلة العيش في ظل نظام أمني يصادر المؤسسات ويقزّمها، ويحيل مركز القرارات السيادية إلى خارج الحدود الدولية.. الممنوع ترسيمها طبعا. وبالتالي، خلق وضعا محليا ودوليا فرض على سورية سحب قواتها من لبنان لأول مرة منذ 1976. غير أن ما تحقق، وفر واقعا جديدا جاء لمصلحة دمشق بعدما تماهت أكثر مع الهجمة الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. فقد أراح خروج القوات السورية من الأراضي اللبنانية دمشق من حمل المسؤولية المعنوية - على الأقل - بحفظ الأمن في لبنان، وأطلق يدها في لعب كل أوراقها «المخفية» لإثبات عجز لبنان عن حكم نفسه بنفسه.

وكما هو معروف، ما أن خرجت تلك القوات حتى انفلت حبل الأمن، فتعددت الاغتيالات السياسية، وحدثت مواجهات مخيم نهر البارد مع «فتح الإسلام». غير أن العنصر الأهم كان تعطيل الحياة السياسية في لبنان عبر الاعتصامات وحملات التخوين وصولا إلى أحداث مايو (أيار) 2008، وهي الأحداث التي أعادت عقارب الساعة «سياسيا» إلى الوراء، وأتاحت انتخاب رئيس جمهورية توافقي ولكن تحت حراب الانتصار الميداني الواقعي لما يمكن تسميته بـ«الحالة الشيعية» في لبنان، والإلغاء العملي لمفاعيل دستور «اتفاق الطائف» الذي حل محله «اتفاق الدوحة» أساسا للممارسة السياسية.

وحاليا ما تحمله من مواقف وتسريبات وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية السورية، بما فيها تلك التي تحمل مسميات لبنانية وتكتب بأقلام لبنانية، يؤكد أن إثبات عجز السلطة في لبنان ما زال في صلب سياسة دمشق اللبنانية. وأن ثمة من يتعمد إرباك رئيس الجمهورية والحكومة والسعي لإفشالهما، بينما الأجواء الإقليمية ملبدة بغيوم التصعيد العدواني الإسرائيلي.

ونصل إلى «تغييب» الإمام الصدر عام 1978.

هذه الجريمة كانت الحدث الاستثنائي في مسيرة «الحالة الشيعية» المتنامية القوة والنفوذ في لبنان والمنطقة، مع بدايات الثورة الخمينية في إيران. ومع أن السلطات الليبية نفت تكرارا أي دور لها في الجريمة، ومع أنه لم يعثر على أثر للإمام الصدر ورفيقيه في تلك الرحلة المشؤومة، الشيخ محمد يعقوب والإعلامي عباس بدر الدين، لا داخل ليبيا ولا بين ليبيا وإيطاليا، فإن أصابع الاتهام في أوساط حركة «المحرومين» - التي تحولت في ما بعد إلى حركة «أمل» - التي أطلقها الإمام الصدر، توجهت إلى السلطات الليبية وركزت على إدانتها. ومنذ ذلك، والحالة الشيعية اللبنانية في حالة عداء معلن مع النظام الليبي. وها هي قوى هذه الحالة، التي تمسك فعليا بمقاليد السلطة في لبنان، تصر على مقاطعة القمة العربية، مع أن لبنان هو ممثل العرب في مجلس الأمن الدولي.

اليوم، لا أعتقد أن لبنانيا يتمتع بحد أدنى من الإنصاف يجوز له تصنيف الجرائم الثلاث المذكورة آنفا أو التمييز بينها.

فما حصل في الحالات الثلاث جرائم بحق لبنان، بصرف النظر عن التنوع في طوائف الشهداء الثلاثة. إنهم حقا شهداء الوطن بأسره. لكن الغريب أن من يقيم الدنيا ولا يقعدها في جريمة إخفاء الإمام الصدر، لم يطالب يوما بـ«مقاطعة» المتهمين باغتيال كمال جنبلاط ورفيق الحريري. ومبلغ علمي، لم يطالب بمحاكمات، بل سكت عن تعطيل دور القضاء في اغتيال جنبلاط، ثم حاول تفجير الحكومة اللبنانية من الداخل لأنها دفعت باتجاه تشكيل محكمة دولية للنظر باغتيال الحريري.

كل المؤشرات الراهنة تنذر بأشهر صعبة، قد تشهد عدوانا تشنه إسرائيل، وسيستهدف - حسب تصريحات قادتها - لبنان وبناه التحتية. فهل يعي الساسة اللبنانيون، لا سيما، المتحرقون منهم للمواجهة تبعات عدوان من هذا النوع؟

هل يضمن هؤلاء عمقهم الاستراتيجي الموعود؟ أم يفاجأون بأن لبنان وكل مواطنيه - بمن فيهم هم أنفسهم - ليسوا إلا سلعة مقايضة رخيصة في حسابات القوى الإقليمية والعالمية؟

وهل هناك أي إدراك حقيقي لطبيعة «لعبة الأمم» التي تمارَس اليوم بحق كل من لبنان والعراق وفلسطين وتهدد هذه الكيانات بالزوال؟