ضياع البيريسترويكا

TT

لا يزال برنامج البيريسترويكا، الذي دُشِّن في الاتحاد السوفييتي قبل 25 عاما، محل نقاش مستعر. ولكن اتخذ النقاش حاليا منحى جديدا، ولا يرجع ذلك إلى حلول الذكرى الخامسة والعشرين، بل مرده إلى أن روسيا تواجه تحدي التغيير من جديد. ومن المناسب في لحظات كهذه، بل ومن الضروري، النظر في الماضي.

قدمنا البيريسترويكا لأن مواطنينا وقياداتنا فهموا أن الاستمرار كما كنا لم يعد ممكنا. كان النظام السوفييتي، الذي تكون داخل الاتحاد السوفييتي تحت شعارات الاشتراكية وعلى حساب خسائر وتضحيات وجهود مهولة، قد جعل من بلدنا دولة عظمى تتمتع بقاعدة صناعية قوية. وحقق ذلك نتائج طيبة في الظروف الصعبة. ولكن في الظروف العادية، كانت دولتنا كيانا تابعا.

وكان ذلك واضحا لي وللآخرين في الجيل الجديد من القيادات، بالإضافة إلى أعضاء الحرس القديم الذين اهتموا بمستقبل البلاد. وأتذكر حديثي مع أندريه غروميكو، وزير الخارجية آنذاك، قبل ساعات قليلة من الاجتماع المكتمل للجنة المركزية الذي انتخبني أمينا عاما جديدا للحزب في مارس (آذار) 1985. واتفق وزير الخارجية المخضرم على الحاجة إلى تغيير جذري، وأن ذلك إجراء مهم للتحرك إلى الأمام، مهما كانت المخاطر.

وغالبا ما توجّه إليّ وإلى القيادات الأخرى للبيريسترويكا تساؤلات عما إذا كنا نعلم أي نوع من التغيير يجب علينا تنفيذه. وتكون الإجابة بالنفي والإثبات: غير كاملة ولا فورية. وكان واضحا نسبيا ما يتعين علينا تركه: النظام الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي المتشدد، والمواجهة مع الكثيرين في العالم، وسباق التسلح المحموم. وفي رفضنا لذلك جميعه، كان لدينا دعم كامل من الشعب، فيما كان على هؤلاء المسؤولين، الذين تبين بعد ذلك أنهم ستالينيون متشددون، الالتزام بالصمت والإذعان.

وكانت هناك صعوبة أكبر في العثور على إجابة للسؤال التالي: ما الأهداف التي كانت لدينا؟ وما الذي كنا نريد تحقيقه؟ حققنا تقدما في وقت قصير، وتحولنا من السعي إلى إصلاح النظام القائم إلى الاعتراف بالحاجة إلى تغييره. ومع ذلك، تمسكتُ دوما بالخيار الذي اخترتُه لصالح التغيير التطوري، التغيير الذي لن يكسر ظهور الشعب ويرهق البلاد ويتجنب إراقة الدماء.

ومع ظهور الصراعات القديمة والجديدة، كان البقاء في هذا الاتجاه يمثل تحديا كبيرا. وعلى الرغم من أن الراديكاليين ضغطوا علينا كي نتحرك سريعا، داس المحافظون على أقدامنا. ويجب أن يتحمل كلا الفريقين معظم المسؤولية عما حدث بعد ذلك. ولكني أقرُّ بنصيبي من المسؤولية أيضا: ارتكبنا نحن، الإصلاحيين، أخطاء كلفتنا وكلفت بلدنا ثمنا غاليا.

وكان خطأنا الرئيسي يتمثل في التحرك متأخرين للغاية من أجل إصلاح الحزب الشيوعي. وكان الحزب قد دشن البيريسترويكا، ولكن سرعان ما أصبح عقبة أمام التحرك إلى الأمام. وأعدت البيروقراطية الكبرى داخل الحزب محاولة الانقلاب في أغسطس (آب) 1991، قوضت من البيريسترويكا.

كما تصرفنا متأخرين للغاية في إصلاح اتحاد الجمهوريات، التي كانت قد حققت الكثير من التقدم خلال تعياشها المشترك. كانت قد أصبحت دولا على الحقيقة، فيها اقتصادات ونخب خاصة بها. وكنا في حاجة إلى العثور على وسيلة يمكن لهم من خلالها الوجود كدول ذات سيادة داخل اتحاد ديمقراطي غير مركزي. وخلال الاستفتاء الذي عقد في مارس (آذار) 1991، دعم أكثر من 20 % من السكان فكرة اتحاد جديد لجمهوريات ذات السيادة. ولكن محاولة الانقلاب، التي أضعفت موقعي كرئيس، حددت مصيرها.   

وارتكبنا أخطاء أخرى أيضا: في ذروة المعارك السياسية، أهملنا متابعة الاقتصاد، ولا يغفر الناس يوما عندما يكون هناك نقص في الحاجيات اليومية والبضائع الضرورية.

ولكن، على الرغم من أن ذلك أمر حقيقي، وبغض النظر عما يقوله منتقديّ، فإن إنجازات البيريسترويكا لا يمكن إنكارها، فقد كان البيريسترويكا اختراقا من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية. وتؤكد استطلاعات الرأي أنه حتى منتقدي البيريسترويكا وقياداته، ومنتقديّ تحديدا، يقدرون المكاسب التي ساعدت على تحقيقها، مثل رفض النظام الشمولي وحرية التعبير والتجمع واعتناق الأديان وحرية التنقل والتعددية الاقتصادية والسياسية.

وبعد تقويض البيريسترويكا، تفكك الاتحاد السوفييتي، واختار القادة الروس نموذجا «راديكاليا» للإصلاحات. وكان «علاجهم من خلال الصدمات» أسوأ من المرض. وغرق الكثير من المواطنين في الفقر، وأصبحت فجوة الدخل من أوسع الفجوات في العالم. وتلقت قطاعات الصحة والتعليم والثقافة ضربات شديدة. وبدأت روسيا تفقد قاعدتها الصناعية وأصبح اقتصادها معتمدا بالكامل على صادرات البترول والغاز الطبيعي.

وفي مطلع القرن الجديد، كانت الدولة في حالة اضمحلال جزئي، وواجهت أمورا فوضوية. وعانت الديمقراطية نتيجة التفسخ الشامل داخل روسيا. وكانت الانتخابات في عام 1996 وانتقال السلطة إلى «وريث» معين في 2000 خطوة ديمقراطية في الشكل من دون الجوهر. وعندئذ بدأت أشعر بالقلق على مستقبل الديمقراطية في روسيا.

فهمنا أنه عندما كان وجود الدولة الروسية يواجه مخاطر، كان من الممكن دوما التصرف «كما تنص القواعد»: ربما تكون هناك حاجة إلى إجراءات حاسمة شديدة وربما إلى بعض عناصر الديكتاتورية في مثل هذه الأوقات. ولهذا دعمت ما قام به فلاديمير بوتين خلال ولايته الأولى، وأعتقد مثله أنه كان هناك حق في القيام بذلك.

ومع ذلك، لا يمكن أن يكون تحقيق الاستقرار داخل الدولة الهدف الوحيد أو غاية المنى. وتحتاج روسيا إلى تنمية وتحديث كي تصبح دولة رائدة في عالم مترابط. ولم تتحرك بلدنا نحو هذا الهدف خلال الأعوام القليلة الماضية، على الرغم من أننا استفدنا لعقد من الزمان من ارتفاع أسعار السلعتين الرئيسيتين اللتين نصدرهما: النفط والغاز. وقد نالت الأزمة العالمية من روسيا أكثر من عدد كبير من الدول الأخرى، ولا يمكن لنا لوم أحد غيرنا.

ولن يمكن لروسيا أن تحقق تقدما بثقة سوى من خلال اتباع نهج ديمقراطي. وقد ظهر أخيرا عدد من العقبات في هذا الصدد. وفقدت العملية الديمقراطية زخمها، ونكصت على عقبيها، فجميع القرارات المهمة يتخذها الجانب التنفيذي، ولا يعطي البرلمان سوى موافقة رسمية. وهناك تساؤلات حول استقلالية المحاكم، وليس لدينا نظام حزبي يساعد أغلبية حقيقية على الفوز، مع الوضع في الاعتبار رأي الأغلبية والسماح لمعارضة فعالة. وثمة شعور متزايد بأن الحكومة تخشى من المجتمع المدني وتحب السيطرة على كافة الأمور.

هل نريد العودة إلى الوراء؟ ولا أعتقد أن هناك من يريد ذلك، بما في ذلك قياداتنا. ويتزايد الحزن بسبب الوضع الراهن على كافة المستويات. وأشعر بالتنبيه إلى الخطر في كلمات الرئيس ديمتري ميدفيديف عندما يتساءل، كما فعل في تصريحات علنية أخيرة: «هل يجب أن يصحبنا في المستقبل اقتصاد بدائي يعتمد على المواد الخام والفساد المستشري؟». هل يمكن أن نشعر بالرضا عندما «يكون الجهاز الحكومي في دولتنا هو صاحب العمل الأكبر والناشر الأكبر والمنتج الأفضل وقاضي نفسه وحزب يعتمد على نفسه ودولة متفردة بتصرفاتها؟».

أتفق مع الرئيس، واتفق على ما يستهدفه من تحديث. ولكن لن تكون للتحديث نتيجة طيبة إذا جرى تهميش الشعب، وإذا كان الشعب مجرد دمية. وإذا لم يحس الشعب ويتصرف كمواطنين، فلا يوجد سوى وصفة وحيدة: الديمقراطية وحكم القانون والحوار الصريح الصادق بين الحكومة والشعب.

وما يجعلنا في الخلف هو الشعور بالخوف. ويوجد بين الشعب والسلطات خوف من أن تؤدي جولة جديدة من التحديث إلى زعزعة الاستقرار أو فوضى. ولكن، يعد الخوف في السياسة مؤشرا خطأ ويجب علينا أن نتغلب عليه.

في الوقت الحالي، يوجد في روسيا الكثير من المواطنين الأحرار الذين يفكرون باستقلالية ومستعدين لتحمل المسؤولية والدفاع عن الديمقراطية. ولكن هذا يعتمد في جزء كبير منه على الطريقة التي تتصرف بها الحكومة.

* رئيس الاتحاد السوفييتي منذ عام 1985 حتى انهياره في 1991. وحصل على جائزة نوبل للسلام.

* خدمة «نيويورك تايمز»