هل جاءكم نبأ «زكريا» الأخير؟

TT

في هذا المقال سنتجول سوية في الكلمة الأخيرة لـ«شيخ الليبراليين العرب» المفكر المصري فؤاد زكريا، الذي رحل عن عالمنا الخميس الماضي (عن 83 عاما)، هذه الكلمة الأخيرة التي قالها زكريا عبر حوار نادر أجرته معه «الشرق الأوسط» منتصف الشهر الماضي.

فؤاد زكريا هو بحق رمز الثقافة الليبرالية العربية، نقد الأصولية الإسلامية، ونقض التيار القومي والناصري، وظل منافحا عن «التفكير العلمي»، وهو عنوان أحد أشهر كتبه في العالم العربي، توقف عند عيوب الذات العربية المفكرة، وحاول أن يزيل قشور القداسة عن ما هو غير مقدس، وأن ينتصر لفكرة السلام والاعتدال ويناوئ التفكير المنغلق على الذات، قوميا كان هذا التفكير أو إسلاميا. ولم يكتف بهذا بل كان من البناة العمليين في تشييد صروح التفكير العلمي في العالم العربي، وكلنا يتذكر دوره العظيم في سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية، حيث كان عقلا من أهم العقول التي رعت هذه المبادرة الكبرى في ترويج الوعي والفكر النقدي العلمي في الوسط العربي.

الغريب أنه جاء خبر وفاة «الشيخ الرئيس» وأنا أقلب أحد منتجات هذه السلسلة الرائعة، حيث أشرف فؤاد زكريا على ترجمة كتاب الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل «حكمة الغرب» وهو كتاب رائع من جزأين توقف فيه فيلسوف بريطانيا مع مسيرة تشكل العقل الغربي من أيام اليونان حتى العصور الحديثة، بأسلوب هو بين الأدب والفلسفة والرأي الذاتي، زاد هذا الكتاب حسنا يد الماهر فؤاد زكريا التي صنعت قطعة سجاد شرقية بخيوط غربية، فكانت مسرة للناظرين وبهجة للعاقلين.

وفي هذا العمل يتجلى هنا استقلال فكر زكريا، وهو الوثيق الصلة بالفكر الغربي وفلسفته، بمقدمته الضافية التي شرح فيها منهجه في تقديم الكتاب للقارئ العربي، حيث سجل ملاحظاته النقدية على راسل، ومنها أن راسل ظل حبيسا للرؤية الغربية المركزية للذات الأوروبية، معتبرا أن فلسفة أثينا هي نواة العقل الأولى في أوروبا، بل في مسيرة العقل الإنساني الحديث، ملغيا، أو مهمشا، بذلك الإسهام الشرقي المبكر في صوغ أسئلة العقل الإنساني الأولى حول الذات والوجود، أسئلة صيغت وتفاعلت على ضفاف نيل الفراعنة ورافدي السومريين والأشوريين. يرفض زكريا هذه المركزية الغربية الوهمية، لكنه يسجل في الوقت نفسه أن راسل لم يكن من عنصريي الفكر الأوروبي الحائم حول الذات، بل إنه يشير بشكل خجول في كتابه إلى بعض اللمسات الشرقية في مسيرة العقل الأوروبي.

إذن هو مؤلف ومترجم إيجابي متفاعل، واع بهويته الثقافية وهوية الآخر الثقافية، لكنه ليس «مريضا بالغرب» حسب عنوان كتاب جورج طرابيشي المؤلم، والحق أنه، عند التدقيق، لا توجد «جغرافيا مغلقة» للمعرفة والثقافة، منذ حضارات الرافدين والنيل وجبل الأوليمب في بلاد الإغريق، حتى عصر الإنترنت الحالي، لكن قاتل الله السياسة وأكاذيبها في خلق الهويات والأمم والذاكرة المصطنعة القائمة على مصادرات غير علمية.

نعود إلى كلمات زكريا الأخيرة، كما وعدنا في بداية المقال، كلمات قالها هذا الرجل، وشمس حياته تذوب في بحر الموت، قال في لقائه المنشور بتاريخ 18 فبراير (شباط) 2010، مع هذه الجريدة، وبالتحديد مع الزميل إيهاب الملاح، حين سأله الزميل عن «مشاريعه» الفكرية، قال إنه لا يحب استخدام كلمة «مشاريع» فكرية لأنها تضخم محاولات عادية للتفكير في مسائل محددة، و«هي كلمة فيها تعميم وتضخيم لا أحبهما ولا أميل إلى استخدامها أكثر من اللازم لما قام به هؤلاء الأشخاص الذين ذكرتهم في سؤالك (يشير إلى الجابري وعبد الله العروي وطيب تيزيني) وغيرهم ممن قاموا بمحاولات للتفكير في أوضاع الواقع العربي والبحث عن جذور أزماته ومشكلاته، لكنهم لم ينجحوا في تكوين تيار فكري عربي محدد المعالم والقسمات، يمكن أن يكون له صدى واسع في إحداث حركة تحرير اجتماعي واستنارة فكرية حقيقية، لم تنجح هذه الجهود في إيجاد تيار فكري تنويري يماثل ما قام به المفكرون والفلاسفة الفرنسيون أو من يطلق عليهم «الموسوعيون» في القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنسية، أو أدباء روسيا ومفكروها في القرن التاسع عشر قبل الثورة الروسية.

وحين سأله عن موضع الداء الحقيقي في التفكير العربي؟ قال «التحليل الدقيق للمشكلة هو أن استمرار أو سيادة نمط واحد محدد من أنماط التفكير أو شيوع التفكير اللا عقلاني وغياب المنطق وحضور الخرافة، كل هذا يؤدي في النهاية إلى تكريس وتثبيت الأوضاع الصعبة التي تعاني منها الشعوب العربية».

وفي جملة مناسبة لرجل بقي على موته بضعة أيام، قال حكيمنا فؤاد زكريا: «العقول لا تتغير من فراغ، فلا معنى لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولا، ثم بعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع، لأن الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة، فالعقول لا يعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدى، العقول لا تبدأ في التغير إلا بعد أن تتغير الأوضاع من حولها».

وفي نقد فاضح لرداءة كثير من «النخب» العربية، قال زكريا: «نحن ما زال لدينا أناس يدافعون ويروجون للشعوذة والسحر والدجل إلى يومنا هذا، ومنهم من يؤمنون بهذا وهم حاصلون على مستويات تعليمية عليا، وكل هذا نتيجة إحساس الإنسان بالعجز عن مواجهة أزماته».

وبكل صراحة قال زكريا في مقابلة الوداع هذه عن أهم مشكلة يعانيها المثقف العربي: «أهم مشكلة بالطبع هي مشكلة الحرية، بمعنى ترك كامل الحرية للكتاب والمفكرين في أن يقولوا ما يعتقدونه وما يريدونه دون قيود مفروضة عليهم من أي نوع ودون فرض تحريمات أو قيود عليهم».

وفي ملاحظة نافذة وذكية، يرفض فؤاد زكريا وصف ردة الفعل لدى شيوخ الإسلاميين والفقهاء حول الإرهاب العالمي ومسؤولية شباب مسلمين عن عمليات التفجير والتكفير في العالم كله، يرفض وصف ردة فعلهم هذه بأنها «تجديد» في الفكر الديني من أجل الاتجاه نحو الاعتدال وقيم العصر الإنسانية، ويقول المفكر زكريا «أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، كانت لها علاقة بالإرهاب المباشر ولا صلة لها من قريب أو بعيد بتجديد الدين أو تجديد الخطاب الديني كما زعم الزاعمون. الخطاب الديني كان جهده مركزا خلال هذه الفترة على الفصل بين الإسلام والإرهاب».

وفي نظرة إلى معارك الشاب والكهل والشيخ فؤاد زكريا في الفكر والسياسة، وهل هو نادم عليها، يجيب الرجل إجابته الأخيرة «أنا أرى أنني خضت معاركي دفاعا عن قناعاتي الفكرية وكشفا لمواقف وتيارات معينة، وسأحاول أن أضرب لك مثلا بسيطا موضحا، ويلخص الإجابة عن سؤالك، كنت قد كتبت مقالا عقب حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 وكان بعنوان «معركتنا.. والتفكير اللا عقلي»، وبعد أن نشرت هذا المقال البسيط في جريدة «الأهرام» المصرية، هوجمت هجوما شديدا وعنيفا في كل مكان وفي معظم وسائل الإعلام المصرية في ذلك الحين، حتى وصل الأمر أنني لعنت على منابر المساجد لأني حاولت تفنيد الزعم القائل بأن الملائكة نزلت وساعدت الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973، وقلت آنذاك إنه من الظلم البين أن ننسب الانتصار العسكري الوحيد الذي أحرزناه في العصر الحديث على الأعداء إلى الملائكة، وننكر الجهد الشاق الذي بذلته القوات المسلحة في التدريب والإعداد والاستعداد الشاق، كما أننا بذلك نغفل جهود كل من خطط وجهز وأعد ودرب واستعد لهذه الحرب، وكأنني قد جاهرت بكفري عندما أعلنت رأيي هذا!».

وتحدث عن معركته الشهيرة مع «مثقف الناصرية الأول» محمد حسنين هيكل، فوصفها زكريا بأنها كانت «أهم معركة إذا جاز التعبير، لأنها كانت ضد محمد حسنين هيكل ردا عليه في كتابه «خريف الغضب»، وبالطبع فنقدي لهيكل نقد ضمني وتقييم لمرحلة الرئيس جمال عبد الناصر والتجربة الناصرية في مجملها، وأنا كنت كعادتي دائما أريد أن أعبر عن رأيي الخاص، وليس مساندة أي حاكم ضد حاكم آخر، وبالنسبة لمحمد حسنين هيكل فأنا هاجمته وكشفت عن ما حاول هو أن يخفيه عن نفسه بشكل واضح يستطيع القارئ أن يستنتجه بسهولة من القراءة الفاحصة لردي عليه في كتاب (كم عمر الغضب)، وهو ما زلت على قناعة به إلى الآن».

لاحظوا الجملة الأخيرة من جوابه، ما يعجبك في هذا الرجل هو إصراره العنيد على التشبث بأسس التفكير العلمي ومحاربته للشعوذات القومية والأصولية، والأكثر إثارة للإعجاب هو أنه ظل على هذا الموقف الثقافي المستقل في أيامه الأخيرة، حيث تعودنا من بعض المثقفين العرب، خصوصا في مصر، نوعا من الارتخاء والكسل العقلي والضمور النقدي، مع التقدم في السن، لكن هذا الرجل ظل شعلة عصية على الانطفاء حتى توهجت توهجها الأخير.

له سلام، وله علينا أن نصغي إلى كلامه الأخير.

[email protected]