قرارات المتابعة.. إيقاظ أزمة جديدة

TT

برع العرب في نقل الأزمات مع الآخرين إلى بيتهم، هذا ما حدث على صعيد المعالجة الأخيرة، لأزمة الاستعصاء السياسي والتفاوضي، الذي وقع فيه المسار الفلسطيني - الإسرائيلي. فيما مضى، وقبل أن يبحث هذا الملف المعقد، داخل إطارات الجامعة العربية، كانت المعادلة السياسية قد استقرت على الشكل التالي: مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية تحت وصاية أميركية دولية، وبدعم من معسكر الاعتدال العربي، وسلبية لا تصل حد العداء من قبل من فرزوا أنفسهم كمعسكر ممانعة.

وفي أي مفاوضات، يحاول كل طرف تحقيق أقصى ما يستطيع من مزايا وأفضليات، تحت الأسقف الموضوعية، التي تحدد مضامينها وأبعادها إما مرجعيات محددة، أو اعتبارات قوية ترقى في تأثيرها إلى مستوى الإلزام.

وفي أي مفاوضات كذلك، يكون هناك حشد للأوراق ولقدرات التأثير، بمعزل عن الحق بمفهومه الأخلاقي، أو الظلم بواقعه المفروض..

في هذا السياق، كان معسكر الاعتدال العربي، يراهن على نجاح المفاوضات في إيصال الفلسطينيين إلى حقوقهم الممكنة وليس المطلقة، وكان معسكر الممانعة يراقب ويراهن على الفشل، واضعا لكل احتمال سياسته الخاصة به، فإن نجحت المفاوضات، فسيكون ذلك ممهدا لنجاح مفاوضاتهم، وإن فشلت فسيكون الفشل قرينة على صدق نبوءاتهم وتحذيراتهم ومخاوفهم!

ولقد استقرت المعادلة على هذا النحو، إلى أن دخل عامل دراماتيكي، فرض فرزا أكثر حدة على الوضع العربي، ذلك حين ظهر المؤثر الإيراني، بصورة أوضح، وتبلور الانقسام الفلسطيني، المدعوم بشكل سافر من جانب معسكر الممانعة، وعلى الرغم من ذلك جرى ترويض الأزمة الجديدة، والتعايش معها، رغم قمم كثيرة ظهر فيها الانقسام أكثر من التوافق، كان يبرر بها الاختلاف على أنه عائلي «وسنجد وسيلة لترميمه في وقت ما».

كانت حدة الاختلاف ترتفع وتنخفض عربيا، وفق الإيقاع السوري، والمتطلبات التكتيكية لسياسة القبول والممانعة في وقت واحد، فتهدأ الأجواء حين يحتاج السوريون إلى تهدئة مع اللاعب الأميركي الكبير، واللاعب السعودي المهم، وتبدأ مرة أخرى حين تتطور ضرورات العلاقة البراغماتية بتركيا المرنة مع شقة الميزان الأخرى، إيران المتشددة، وتهدأ أكثر وأكثر حين تبدأ مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، عبر تركيا كجسر لاصطياد دعم أميركي مباشر لمفاوضات استراتيجية، لتحقيق هدف الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود الرابع من حزيران وفوقها حبة مسك، اسمها مزارع شبعا، مع إقرار أميركي إسرائيلي بنفوذ إقليمي جدي لسورية.

كان العرب جميعا، بمن فيهم، أو حتى على رأسهم معسكر الاعتدال، راغبين تماما في الرقص على الإيقاع السوري، ذلك أن هذا البلد المميز يظل الجميع في حاجة إليه، فإن ذهبوا إلى الحرب ولو بتخيلاتهم فهو أساسي، وإن ذهبوا إلى السلم فهو كذلك، وإن رغبوا في استمرار حالة اللاسلم واللاحرب، فمن غير دمشق بقادر على احتواء كل معارضي الكون العربي، وتوفير ملاذ آمن لهم ولشعاراتهم، المستحيل منها قبل الممكن؟ إلا أن هذه المعادلة المريحة والمستقرة، لم تعد قابلة للاستمرار فيما يبدو حين قرر الإسرائيلي الانقضاض على المفاوضات، إذ قام بتدميرها محملا الفلسطينيين مسؤولية ما حدث، وكذلك حين أعلن الأميركي أنه في غير وارد الضغط على إسرائيل الثمينة استراتيجيا، والأهم كثيرا من الاستخدام التكتيكي للفلسطينيين.

وفي الوقت ذاته، مد يده إلى سورية كعامل فعال في الشأن الإيراني والعراقي، اللذين يلزمان لأميركا أكثر بكثير من لزوم للسلطة الفلسطينية السجينة موضوعيا وراء قضبان المعادلة الدولية، والواقعة تحت أسقف الاعتبارات العملية الإسرائيلية والإقليمية والدولية.

في هذا السياق، جاء قرار لجنة المبادرة العربية بهدف شد أزر الموقف الفلسطيني المنهك، والمثخن بالجراح والمتاعب، وانعدام البدائل وبهدف حمل الأميركيين على مضاعفة جهودهم، كي لا يعصف الفراغ بسياسة الاعتدال العربي التي تفقد جمهورها مع كل عمل إسرائيلي يطال الأرض والمقدسات، غير أن واقع الأمور يقول: مع إخلاص النيات والمقاصد، هنالك أمر الحسابات والنتائج، فمنذ اللحظة الأولى لصدور قرار لجنة المتابعة، أي قرار الفرصة الأخيرة ومدتها أربعة أشهر تبدو أقل من ثانية زمنية قياسا لعقود الصراع العربي الإسرائيلي، عاد الفرز الحاد إلى الظهور على الساحة، فمعظم الفلسطينيين يعارضون، ومعسكر الممانعة نهض من جديد معارضا ومحرضا، أما الجمهور العربي المراقب، فلن يتأذى كثيرا من رؤية امتحان مدته أربعة أشهر، ينتظر نتائجه بدافع من الفضول، مع يقينه بحكم التجربة أن معجزة لن تتحقق في القرن الحادي والعشرين!

إن خلاصة قرار المتابعة عمليا يمكن تلخيصها أوليا على النحو التالي:

- أميركيًا.. إن أربعة أشهر من ملء الفراغ بحركة سياسية لا تضر، وقد تمدد إلى مثلها في اليوم التالي لانتهائها.

- إسرائيليا.. ما المانع ما دامت الأشهر الأربعة تنتهي بقرب انتهاء الفترة الزمنية المحددة للتجميد الجزئي والمؤقت للاستيطان؟

- وفلسطينيا.. ها نحن أعطينا الأميركيين أربعة أشهر لنرى ماذا هم فاعلون؟

أما عملية السلام التي حظيت بأنبوبة أكسيجين صالحة لأربعة أشهر، فتبدو أنها تقترب من إعلان الوفاة، إما على لسان جامعة الدول العربية، أو بالبديل المقترح حتى الآن، مجلس الأمن الوطن المفضل للفيتو الأميركي! أو باستمرار تجهيز أنابيب الأوكسيجين ذات الفاعلية الشهرية وحتى السنوية!

* وزير إعلام سابق وسفير فلسطين السابق

لدى مصر