قصة «مقابلة» معلنة

TT

ليس حديثا صحافيا عابرا ذاك الذي أجراه وليد جنبلاط مع قناة «الجزيرة» السبت الماضي. فالاعتذار المباشر حينا والمضمر حينا آخر والرسائل العديدة التي وجهها الزعيم الدرزي إلى النظام السوري وإلى الرئيس بشار الأسد تحديدا كانت جميعها رسائل معدة سلفا ومعروفة. ونعني هنا بأنها معدة ليس فقط من حيث المحتوى السياسي بل من حيث الشكل والآلية والظروف والتوقيت..

ما يجعل من تلك المقابلة مادة فريدة هي حكايتها.

فبمعنى السبق الإعلامي التقليدي لم يحمل ذاك اللقاء الصحافي أي مفاجأة، بل على العكس، إنها مقابلة درى بها الجميع وانتظرها الجميع وراقبها الجميع ولم يتدخل بمسارها أحد. منذ أسابيع وجنبلاط يتحدث عن تلك المقابلة أمام زواره وهو شرط سربته الصحف ووسائل الإعلام بصفته بندا أخيرا في لائحة المطالب السورية والتي كان شرع جنبلاط في تلبيتها طمعا في أن تفتح أبواب دمشق أمامه.

مع ذلك فإن المقابلة كانت حدثا لأن الجميع كان يعلم أنها ستحدث على هذا النحو تماما. بل كلنا كان يعلم أن المطلوب أن يتم الاعتذار الجنبلاطي عبر قناة «الجزيرة» ومع الزميل غسان بن جدو تحديدا وفقا للائحة الشروط السورية..

بدت تلك المقابلة نتاج ماكينة كاملة سياسية وصحافية وأمنية، وجميع المنخرطين فيها كانوا يدركون أدوارهم تماما ولعبوها كما هو معدّ سلفا وكان هذا تماما هو سرّ الانجذاب إلى الدراما الجنبلاطية إلى حدّ أن معاني كبرى في اللقاء نفسه بدت بلا وظيفة. لقد استذكر جنبلاط في المقابلة قوله المأثور السابق والذي درج على ترداده في السنوات الخمس الأخيرة بأنه سامح لكنه لن ينسى، واليوم يقول لسورية إنه يسامح وينسى.. ما معنى هذا الكلام؟؟ ورد هذا الموقف في سياق استذكار التهم التي كان وجهها إلى النظام السوري بشأن اغتيال والده كمال جنبلاط...

بدت تلك الجملة رغم خطورتها أقل أهمية من السياق العام للمقابلة وبدا أن الوظيفة المطلوبة، وهي الاعتذار، تتقدم على أي تفاصيل أخرى. فقد ابتلع جنبلاط في كلامه حقائق سابقة صعبة سبق أن جاهر بها. رغم ذلك لم يتوقف أحد عند تلك الجملة بل أدت المقابلة وظيفتها المطلوبة فبعد أقل من يومين أتى الردّ السوري بقبول الاعتذار وبوسائل لا تقل إثارة، عبر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.

نميل أحيانا إلى الاستخفاف ببعض التفاصيل ونقول لمطلقها إنها رواية، لكن المقابلة الجنبلاطية الأخيرة كانت بمثابة إعادة قراءة لرواية فعلية معروفة النهاية والأحداث منذ صفحاتها الأولى ورغم ذلك لا تفقد شيئا من إثارتها.

لا شك أن اللاعبين بمصائرنا باتوا يستمتعون بهذا القدر من الخيال الروائي في تكتيكات السياسة وهم حين يفعلون ذلك لا يفوتهم أن يذكرونا بأن الإعلام في بلادنا هو جزء ملحق بالمنظومة القائمة فلا نخدع أنفسنا بأوهام أخرى. وحين تحدد السياسة للإعلام مهمة ووظيفة من دون مقاومة فهذه لحظة ينكشف فيها على نحو فادح ضعف الإعلام حيال الواقع السياسي وينتفي دوره كرقيب ويصبح وسيلة تقنية ليس أكثر.

diana@ asharqalawsat.com