في ضوء ما يجري.. هل فقدت إسرائيل «وظيفتها التاريخية»..؟!

TT

حتى لو أن هذه «الأزمة» المتفاقمة بين إسرائيل والولايات المتحدة، التي توصف بأنها سياسية وغير مسبوقة منذ خمسة وثلاثين عاما، لكنها ليست استراتيجية، قد مرت بسلام واستطاع الطرفان تجاوزها وحلها بتنازلات متبادلة، فإنها وضعت إشارة استفهام كبيرة حول علاقة الدولة الإسرائيلية، التي بقيت أميركا تعاملها على الأقل منذ عام 1967 على أنها إحدى ولاياتها الرئيسية، وإن كانت تفصل هذه الولاية عن المركز بالدولة الأميركية محيطات وبحار كبيرة.

قبل أيام، وبعد أن تلقى الصفعة المهينة التي تلقاها على وجهه وعلى قفاه، قال نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن في محاضرته في جامعة بار إيلان في تل أبيب التي غلب عليها التملق والتـزلف: «إن إسرائيل هي أهم صديق للولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، وحقيقة أن هذه المسألة لا نقاش فيها ولا جدال حولها إذا ما قيست الأمور بما كانت عليه قبل أن يصبح لأميركا كل هذا الوجود العسكري في هذه المنطقة التي بعد انهيار المعسكر الشرقي الاشتراكي، وانتهاء الحرب الباردة زادت أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن، إما لجهة الموقع والمصادر الطبيعية والأسواق المستهلكة، وإما لجهة إحباط كل محاولات إنهاء صيغة القطب العالمي الأوحد لحساب عالم متعدد القطبية الذي تسعى إليه روسيا، ومعها الصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي والدول الصاعدة كالهند وبعض دول أميركا اللاتينية.

إن هذا الذي قاله بايدن في بار إيلان يتنافى مع معلومات تحدثت عن أن كبار الجنرالات الأميركيين، وعلى رأسهم ديفيد بترايوس، قد وجهوا، أخيرا في ضوء تردي عملية السلام في الشرق الأوسط، مذكرة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما أكدوا فيها أن تصرفات إسرائيل في عهد هذه الحكومة التي يرأسها بنيامين نتنياهو أخذت تشكل عبئا حقيقيا على الوجود العسكري الأميركي في هذه المنطقة التي باتت تعتبر بالنسبة للولايات المتحدة أهم مناطق مصالحها الحيوية في العالم بأسره.

وهنا، قد بات حتى كبار الجنرالات الأميركيين يشْكون مُر الشكوى من تصرفات إسرائيل، ويعتبرون أن هذه التصرفات والسياسات غدت تشكل عبئا حقيقيا على التواجد العسكري الأميركي في أهم منطقة مصالح حيوية بالنسبة للولايات المتحدة، فإنه لا بد من التوقف عند القرار الأخير الذي كانت اتخذته لجنة المتابعة العربية، وأعطت بموجبه غطاء للرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بالذهاب إلى المفاوضات غير المباشرة مع سقف زمني مدته أربعة أشهر، يتجه العرب بعدها إلى مجلس الأمن الدولي إذا توقفت هذه المفاوضات، أو أنها لم تؤد إلى أي نتيجة.

والآن إذ يتم النظر إلى المستجدات التي أعقبت هذا القرار، حيث ذهب نتنياهو بعيدا في استفزاز الفلسطينيين ودفعهم دفعا إلى الاستنكاف عن الذهاب إلى المفاوضات غير المباشرة، يتأكد كم أن العرب الذين اتخذوا هذا القرار الذي اتخذ في لجنة المتابعة العربية كانوا أصحاب وجهة نظر صحيحة وبعيدة، وأنهم قاموا بما قاموا به وهم يعرفون تمام المعرفة أن هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة لا تريد السلام، ولا تريد المفاوضات، وأنها لجأت إلى الاستفزاز الصارخ، بدءا بقرار ضم الحرم الإبراهيمي الشريف ومسجد بلال بن رباح إلى ما يسمى التراث اليهودي في فلسطين بهدف منع محمود عباس (أبو مازن) من الذهاب إلى المفاوضات غير المباشرة، وبالتالي تحميله وتحميل الدول العربية المعنية مسؤولية انهيار العملية السلمية.

كان بنيامين نتنياهو يريد بقراراته وإجراءاته الاستفزازية أن يضع العرب والفلسطينيين وجها لوجه مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكل العالم الراغب في وضع حد لصراع الشرق الأوسط وإنهائه، ويقينا لو أن لجنة المتابعة العربية رضخت لابتزازات أصحاب الأصوات المرتفعة والأفعال القليلة، ولم تتخذ هذا القرار الصائب، والصحيح الذي اتخذته، لكانت كل هذه التنديدات والضغوطات التي تتعرض لها إسرائيل موجهة للرئيس الفلسطيني ولسلطته الوطنية، ولمنظمة التحرير، وللدول العربية التي تتعاطى مع هذا الأمر بكل واقعية، وبالمزيد من المسؤولية.

في كل الأحوال، وبالعودة إلى سؤال مستقبل العلاقات الإسرائيلية - الأميركية، وما إذا كان هذا المستجَد الطارئ، في ضوء إصــرار بنيامين نتنياهو على مواقفه المتعلقــة بالاستيطان في القدس الشرقية بعد تلك الصفعة التي وجهها إلى بايدن وإلى الولايات المتحدة، سيؤثر على الجانب الاستراتيجي من هذه العلاقات، أم أنه سيتوقف عند الأمور السياسية العابرة فقط، وعلى غرار ما حصل في بداية تسعينات القرن الماضي، وكان يومها إسحاق شامير هو رئيس وزراء إسرائيل؟!

ثم، وهناك سؤال آخــر في غاية الأهمية وهو: هل إسرائيل يا ترى باتت تتصرف بكل هذه العصبية والنـزق لأنها باتت تشعر بأنها غدت تفقد وظيفتها التي أنشئت من أجلها في هذه المنطقة الاستراتيجية والحساسة بالنسبة للولايات المتحدة، وبالنسبة للغرب كله؟!

إن المعروف أن كذبة أن إسرائيل هي الخندق المتقدم في الشرق الأوسط لمواجهة الخطر الشيوعي الزاحف نحو هذه المنطقة المهمة قد انكشفت، وقد انتهت بعد انتهاء الحرب الباردة وصراع المعسكرات في بدايات تسعينات القرن الماضي، وأن كذبة أن إسرائيل هي جدار الصد الوحيد في مواجهة «الإرهاب الإسلامي» قد بدأت تنكشف وتنتهي أيضا بعد أن تيقنت الولايات المتحدة وتيقن الغرب كله من أن الإسلام المعتدل هو الذي يواجه هذه الظاهرة المستجدة المشبوهة، وأن الدول العربية هي التي تخوض الحرب الحقيقية ضد «القاعدة» وكل التنظيمات المتطرفة التي تشكل امتدادا للقاعدة في أكثر من منطقة في العالم.

وهكذا، فإن إسرائيل باتت تتصرف بكل هذا النـزق والعصبية لأنها غدت تشعر بأن كذبتها قد انكشفت، وأن الولايات المتحدة ومعها الغرب لم تعد تصدق أن هذه الدولة التي أنشئت في هذه المنطقة الحساسة في عام 1948 هي التي تصدت للخطر الشيوعي الزاحف الذي كان يهدد الشرق الأوسط، وأنها هي التي تتصدى الآن لـ«الإرهاب الإسلامي» الذي تمثله «القاعدة» والتنظيمات التي تعتبر نفسها امتدادا لأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وبالتالي فإنه حقيقي أن الدولة الإسرائيلية قد فقدت وظيفتها السابقة واللاحقة، والدليل على هذا هو التقرير الأخير المشار إليه الذي كان كبار الجنرالات الأميركيين العاملين في هذه المنطقة قد رفعوه قبل أيام قليلة إلى الرئيس باراك أوباما، وشكوا فيه من أن تصرفات الإسرائيليين وسياساتهم وممارساتهم ضد الشعب الفلسطيني أصبحت تشكل خطرا فعليا على الوجود العسكري الأميركي في منطقة تشكل أهم مناطق المصالح الحيوية الأميركية.

ويبقى في النهاية أنه على العرب أن يدركوا هذه الحقائق، وأن يتصرفوا على أساسها، وأنه عليهم أن لا ينظروا إلى كل ما تقوم به الولايات المتحدة وفي مقدمته هذه الأزمة المستفحلة، إن ليس مع إسرائيل فمع هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي عنوانها بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان من زاوية الشكوك، فهذا لا يخدم إلا الإسرائيليين الذين يسعون سعيا حثيثا، وبخاصة في هذه المرحلة الدقيقة، إلى إظهار «العربي» على أنه معاد للولايات المتحدة بطبيعته، وإظهار المواقف والسياسات العربية على أنها عدمية وغارقة في التبسيط والسطحية في الوقت ذاته.