من الشيوعية إلى الكونفوشيوسية.. البديل الصيني الجديد للديمقراطية الليبرالية

TT

منذ أربعة عقود، كان التفوه بكلمة طيبة عن كونفوشيوس داخل بكين أشبه بمحاولة انتحار، حيث كان يجري النظر إليه باعتباره عدوا رجعيا، وحث جميع الصينيين على النضال ضده، بل إن الزعيم ماو نفسه جرى تصويره على غلاف صحيفة ثورية أعلنت تدنيس قبر كونفوشيوس في كوفو. وكانت الجامعة التي ارتادها بمثابة معقل للفكر اليساري المتطرف.

والآن، شهدت الأوضاع تبدلا هائلا، فاليوم، وافق الحزب الشيوعي الصيني على صنع فيلم عن كونفوشيوس، بطولة النجم الوسيم تشاو يون فات. خلال الفيلم، يجري تصوير كونفوشيوس كقائد عسكري داهية ومعلم للقيم الإنسانية والتقدمية، مع تمتعه بحساسية تجاه الجمال الأنثوي. والتساؤل الملح الآن: ما الذي ينبئه هذا التحول عن المستقبل السياسي الصيني؟ في الواقع، تعرض «كونفوشيوس» لفشل ذريع في دور العرض، مما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن صحوة الكونفوشيوسية التي تشهدها البلاد حاليا ستلقى نفس مصير الحملات المناهضة للكونفوشيوسية خلال حقبة «الثورة الثقافية».

لكن ربما لا يعدو الأمر كونه مجرد فيلم رديء المستوى. تلقى فيلم «كونفوشيوس» الضربة القاضية بطرحه في مواجهة فيلم «أفاتار» الذي حقق نجاحا ساحقا. إلا أنه على المدى الطويل، ربما يتضح أن القائلين بأن الكونفوشيوسية تشهد صحوة في الصين على صواب.

خلال حقبة «الثورة الثقافية»، غالبا ما كان يجري استغلال كلمة «كونفوشيوس» في مهاجمة الأعداء السياسيين. اليوم، بدأ الاسم ذاته يعمل كأداة سياسية أكثر شرعية، حيث بات في مقدوره توفير أساس أخلاقي جديد للحكم السياسي في الصين. الواضح أن الشيوعية فقدت قدرتها على إلهام الصينيين، وهناك اعتراف متزايد بأن بديلها لا بد أن تنتمي بعض جذوره، على الأقل، إلى التقاليد الصينية. وباعتبارها التقليد السياسي الأبرز في التاريخ الصيني، ظهرت الكونفوشيوسية كبديل واضح.

ورغم أن الحزب الصيني الحاكم لم يبدل اسمه إلى «الحزب الكونفوشيوسي الصيني»، فإنه تحرك باتجاه الإقرار الرسمي للكونفوشيوسية. وقد سلطت دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت عام 2008 الضوء على أفكار كونفوشيوسية، فخلال احتفال الافتتاح، على سبيل المثال، ورد ذكر «المنتخبات الأدبية» لكونفوشيوس، بينما جرى التقليل من أهمية أي إشارات إلى التجربة الصينية مع الشيوعية. من ناحية أخرى، يخبر الكوادر في مدرسة «الحزب الشيوعي» المبنية حديثا في شنغهاي الزائرين بفخر أن المبنى الرئيسي للمدرسة مقام على طاولة القراءة والكتابة الخاصة بكونفوشيوس. على الصعيد الخارجي، عمدت الحكومة إلى الترويج إلى الكونفوشيوسية عبر أفرع «المعهد الكونفوشيوسي»، وهو مركز ثقافي يقدم دروسا في اللغة الصينية على غرار منظمة «أليانس فرانسيز» الفرنسية.

بطبيعة الحال، تلقى هذه الجهود معارضة، حيث تنتقد الكوادر الأكبر سنا، التي لا تزال متأثرة بعداء الماوية لأفكار كونفوشيوس، هذه التحركات باعتبارها جهودا للترويج لآيديولوجيات خارج إطار العمل الماركسي الجامد. إلا أن الكوادر الأصغر سنا، في الأربعينات والخمسينات من العمر، تميل إلى مناصرة مثل هذه الجهود، ويقف الزمن في صفها. من السهل نسيان أن «الحزب الشيوعي الصيني» البالغ عدد أعضائه 76 مليون شخص يشكل منظمة ضخمة ومتنوعة. وقد بدأ الحزب ذاته في الاهتمام بدرجة أكبر بتفضيل أهل الكفاءة، وأصبح الآن يشجع الطلاب المتفوقين على الانضمام إلى صفوفه، وبات يولي اهتماما أكبر بالكوادر المتعلمة، وهي تحركات من المحتمل أن يتولد عنها مزيد من التعاطف باتجاه القيم الكونفوشيوسية.

إلا أن الصحوة الكونفوشيوسية في الصين ليست جهودا ترعاها الحكومة فحسب، بل على العكس، تجد الحكومة نفسها أحيانا مضطرة للاستجابة إلى تطورات تقع خارج سيطرتها. الملاحظ أن الدوائر الأكاديمية شهدت تناميا في الاهتمام بالكونفوشيوسية وداخل القطاع الصيني الذي يكافئ المجتمع المدني في دول أخرى. ويتمثل أحد الأسباب وراء تجدد الاهتمام بالكونفوشيوسية في مخاوف معيارية. تشجع آلاف التجارب التعليمية في مختلف أرجاء البلاد تدريس الأعمال الكلاسيكية الكونفوشيوسية للأطفال، بناء على فرضية أن التدريب الأفضل على الإنسانيات يطور المتعلم. أما القضية الأكثر إثارة للجدل - ولا تزال مسألة مناقشتها داخل الجزء القاري من الصين تنطوي على حساسية بالغة - فهي تقدم مفكرين كونفوشيوسيين بمقترحات لاتخاذ إصلاحات دستورية من شأنها إضفاء الطابع الإنساني على النظام السياسي الصيني.

بيد أن المشكلة لا تقتصر على الحكومة الصينية، ذلك أنه من الممكن مواجهة صعوبات جمة في إقناع أبناء الدول الغربية بأن الكونفوشيوسية يمكنها طرح نهج تقدمي وإنساني للإصلاح السياسي في الصين. والتساؤل الآن، لماذا يساور الغربيين القلق إزاء حدوث صحوة كونفوشيوسية؟ ربما تتمثل أحد الأسباب وراء ذلك في حب الذات. على امتداد الجزء الأكبر من القرن العشرين، وجه ليبراليون وماركسيون صينيون انتقادات إلى تراثهم وتطلعوا نحو الغرب كمصدر للإلهام. وربما كان هذا الأمر مصدر سعادة للغربيين. ومن الممكن أن تثار في الغرب مشاعر ضيق من أن الصينيين يشعرون بالفخر الآن حيال تقاليدهم الفكرية فيما يخص الإصلاح الاجتماعي والسياسي. لكن يمكن التغلب على هذه المشكلة ببذل مجهود أكبر للتفاهم والتحلي بقدر أكبر من الانفتاح.

وقد يكمن سبب آخر في الاعتقاد بأن إحياء الكونفوشيوسية مرتبط بإحياء «الأصولية» الإسلامية واتجاهاتها المعادية للغرب. وربما يتبادر إلى الذهن إحياء «الأصولية» المسيحية المتعصبة التي تتسم بضيق الأفق. ولكن لا يقف إحياء الكونفوشيوسية داخل الصين بدرجة كبيرة ضد الاتجاهات الاجتماعية الليبرالية (بخلاف أنماط الحياة الفردية المتطرفة، التي يعتقد فيها أن المعيشة الجيدة خارج العلاقات الاجتماعية). وما تقترحه هو بديل للوسائل السياسية الغربية، وربما يكون ذلك مبعث القلق الرئيسي. ولكن، ينجم هذا القلق من خطأ بسيط: افتراض أن الدعم الأقل للديمقراطية على النمط الغربي يعني دعما أكبر للنظام السلطوي. وداخل الصين، التعامل مع النقاش من ناحية «الديمقراطية» في مواجهة «السلطوية» يبعد احتمالات تروق للإصلاحيين السياسيين الكونفوشيوسيين.

ويفضل الاصطلاحيون الكونفوشيوسيون بصورة عامة مقدارا أكبر من حرية التعبير داخل الصين. ويشككون في الديمقراطية، بمعنى الانتخابات التنافسية على النمط الغربي، كآلية لاختيار الحكام الأكثر نفوذا داخل البلاد. وثمة مشكلة واضحة في شعار «شخص واحد.. صوت واحد» هو أن المساواة تنتهي عند حدود المجتمع السياسي، وأن هؤلاء الخارجيين يتم التعامل معهم بإهمال. ويفترض أن يتركز الاهتمام السياسي للقيادة السياسية المنتخبة ديمقراطيا على خدمة مجتمع الناخبين فقط. وحتى النظم الديمقراطية التي تؤدي عملها بصورة جيدة تميل إلى التركيز على مصالح المواطنين وتجاهل مصالح الأجانب. ولكن القادة السياسيون، لا سيما قادة الدول الكبرى مثل الصين، يتخذون قرارات تؤثر على باقي العالم (ويمكن النظر، مثلا، إلى قضية الاحترار العالمي)، ولذا يحتاجون إلى دراسة مصالح باقي العالم.

وعليه، يقترح الكونفوشيوسيون أمثلة سياسية تهدف إلى تحقيق ثمرة أفضل من الديمقراطية الغربية من ناحية ضمان مصالح جميع المتأثرين بسياسات الحكومة، وربما ضمن ذلك الأجيال المستقبلية والأجانب. وغايتهم ليست الوصول إلى عالم يتم التعامل فيه مع الجميع بالتساوي، ولكن العالم الذي يتم التعامل فيه مع مصالح غير الناخبين بجدية أكبر مما يحدث مع معظم الديمقراطيات التي تركز على مصالح الوطن بدرجة كبيرة. والقيمة المهمة لتحقيق المثل السياسية العالمية هي الأهلية، ويعني ذلك المساواة في الفرص في التعليم والحكومة، مع توزيع مواقع القيادة على أفراد المجتمع ذوي الأهلية الأكبر والأكثر استقامة. وتكمن الفكرة في أن الجميع لديهم الإمكانات التي تجعلهم نموذجا يحتذى به، ولكن في الحياة الواقعية، تتفاوت القدرة على إصدار أحكام سياسية مبررة أخلاقية وتتسم بالكفاءة بين الناس، وتقع مهمة كبرى على عاتق النظام السياسي وهي تحديد هؤلاء الذين يتمتعون بقدرات أعلى من المتوسط.

القيم الكونفوشيوسية في الممارسة العملية: ماذا يمكن أن تعني هذه القيم في الممارسة العملية؟ في العقد الماضي، قدم المفكرون الكونفوشيوسيون مقترحات سياسية تهدف إلى الجمع بين أفكار «غربية» تتعلق بالديمقراطية وأفكار «كونفوشيوسية» مرتبطة بالأهلية والقدرة على الأداء. وبدلا من جعل المؤسسات والقيم الكونفوشيوسية تابعة للديمقراطية كشيء مسلم به، نجدها ذات طبيعة خاصة، ويكون للديمقراطية أولوية في بعض الأجزاء وتعطى الأولوية إلى معيار الأهلية في أجزء أخرى. وإذا كان الأمر يتعلق بخلافات حول الأراضي داخل الريف الصيني، يجب أن يكون للمزارعين صوت أعلى. وإذا كان الأمر يتعلق بخلافات حول الرواتب والأمان، يكون للعمال صوت أعلى. ومن ناحية التطبيق، يعني ذلك مقدارا أكبر من حرية التعبير، وتمثيلا أعلى للعمال والمزارعين في بيئة ديمقراطية نوعا ما.

ولكن، ماذا عن قضايا أخرى مثل السياسية الخارجية والحماية البيئية؟ يؤثر ما تقوم به الحكومة في المجالات على مصالح غير الناخبين، ولذا يحتاجون إلى أحد أشكال التمثيل أيضا. ويقترح المفكرون الكونفوشيوسيون، كيانا حكوميا مختصا بالأهلية، ويتم اختيار النواب من خلال عمليات فحص تنافسي نزيه وشفاف، وتكون مهمة الكيان تمثيل مصالح غير الناخبين، الذين يتم تجاهلهم عرفا من جانب متخذي القرار المنتخبين ديمقراطيا.

وثمة اعتراض واضح على عمليات الفحص وهو أنها لا يمكنها اختبار سمات تهم كونفوشيوس مثل المرونة والتواضع والعاطفة والروح العامة، وسوف يميز ذلك صناع القرارات السياسية في العالم المعاصر. وصحيح أن عمليات الفحص لن تختبر هذه القيم، ولكن القضية هي هل هناك احتمالية أكبر لأن يكون النواب الذين يتم اختيارهم من خلال عمليات الفحص تلك أكثر قدرة على قراءة المستقبل من هؤلاء الذين تم اختيارهم من خلال الانتخابات.

وهناك من الأسباب ما يدفع للاعتقاد في ذلك، واعتمادا على بحث تجريبي، يظهر كتاب براين كابلان «خرافة الناخب العقلاني.. لماذا تختار الأنظمة الديمقراطية سياسات خاطئة؟» أن الناخبين يكونون عادة غير عقلانيين، ويقترح اختبارات لأهلية الناخب. ولذا سوف تختبر عمليات الفحص السياسة الاقتصادية الأساسية (والمعرفة بالعلاقات الخارجية)، كما سوف تتناول المعرفة بالكلاسيكيات الكونفوشيوسية، واختبار الاستذكار والقدرة على التأويل. ويقول المفكر السياسي الكونفوشيوسي البارز جيانغ كينغ إن عمليات الفحص يمكن أن تضع إطارا ومفردات أخلاقية للإجراءات السياسية المقبلة، وسوف يحتاج المرشحون الناجحون أيضا إلى تقييمهم من ناحية الطريقة التي يتصرفون بها عمليا.

وليس من المفاجئ أن توجد سيناريوهات تتوقع تحولا إلى نظام ديمقراطي ليبرالي على النمط الغربي (لأن كل السيناريوهات تفترض مجتمعا أكثر انفتاحا). ويوضح ذلك مصدر القلق الرئيسي المرتبط بالتحول إلى الديمقراطية: إنها تعني طريقة لصنع سياسية وطنية بدرجة كبيرة على المدى القصير. كما هي قضية ترتبط بالمعايير التي يجب أن نستخدمها لتقييم التقدم السياسي داخل الصين.

ومن الناحية السياسية، يعتقد معظم الناس أنه يجب على الصين أن تبدو مثل الغرب بدرجة أكبر. ولكن، في يوم من الأيام ربما نأمل أن يصبح الغرب شبيها الصين بدرجة أكبر.

* أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة تسينغهوا في بكين، ومؤلف كتاب «الكونفوشيوسية الصينية الجديدة.. السياسة والحياة اليومية في مجتمع متغير»

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»

خاص بـ«الشرق الأوسط»