سيبتك من السطر الثالث!

TT

«هناك فارق بين الكاتب والراقصة» هكذا قلت لصديقي، الراقصة يأتي لها جمهور جديد في كل سهرة، فإذا ما أدت ذات الرقصة وذات الحركات فإنها ستدهشهم، لأنهم يرونها لأول مرة، كل ليلة هي أول مرة بالنسبة إلى جمهور جديد يراها لأول مرة، أما الكاتب فهو يكتب لذات الجمهور إلا قليلا، فمعظم القراء قد شاهد الرقصة من قبل، لذا لا بد من التنويع في الفكرة والأسلوب، ومن أول السطر، حتى لا يهرب القارئ منا إلى مكان آخر، ولا أقول إلى مقال آخر. «سيبتك من السطر الثالث»، هكذا كان ردي على كاتب كان قد دوشني بالسؤال عن رأيي في مقاله الأخير. وبالفعل سبته من السطر الثالث لأن السطر الأول لم يشدني كثيرا، حيث كان سطرا تقليدا قادما من عالم ابن المقفع، ولا علاقة لابن المقفع بعالمنا سوى أن صاحبنا يكتب «وحشي الكلام بغية البلاغة»، وهو عكس ما نصح به ابن المقفع، فقلت في نفسي امنحه فرصه لربما طالت منه الجملة، ولم أجد في السطر الثاني من المقال ما يفتح الشهية على القراءة.

وعندما ألح في السؤال قلت له رأيي بصراحة: «سيبتك من السطر الثالث». فقال: «أنت سيبتني من السطر الثالث، وأنا حاسيبك للزمن». قلت له: «ليتك تكتب كما تتكلم بخفة الدم هذه، دونما تكلف، هنا سيقرأ الناس لك، وسيبك من هذا الكلام (المجعلص) والمكرر الذي تكتبه كل يوم بصيغ مختلفة».

هذا ليس الكاتب الوحيد الذي سبته من السطر الثالث، ولكنه الكاتب الوحيد الذي واجهته بتفاهة ما يكتب، فهناك كتاب كبار تركتهم من السطر الثالث من ثلاث سنين وما زالوا يكتبون ذات السطور الثلاثة، فهم يكتبون نفس الشيء في كل مقال ويتحدثون عن نفس الشيء في كل مقام، تكرار يهرب منه الحمار. اقترحت ذات مرة على صاحب صحيفة عربية أن أشتري مقال أحد الكتاب بعشرة آلاف دولار مرة واحدة شريطة أن لا يعيد صاحبنا نشره مرة أخرى، فاستغرب! قلت له: «هذا الكاتب لديه مقال واحد في جوفه ويعيد نشره مئات المرات، مرة يجيب اللي فوق تحت، ومرة يهزه في الوسط، يهز المقال، في وسطه لا في الوسط الفني ولا الوسط الصحافي، ومرة في النهاية، لكنه نفس المقال الممل، فاشترِ منه المقال ليكون أغلي مقال اشترته الجريدة، وخذ حق نشره حصريا، وبهذا تريحينا من نشر ذات المقال مئات المرات في عشرات الصحف العربية الأخرى، انشره مرة واحدة، وأرحنا منه بقية العام، لأنك لو اشتريته بمائتي دولار فقط وأعاد نشره بأشكال مختلفة، فأنت ونحن الخاسرون في النهاية». ضحك ولم يقل شيئا، ويبدو أنه هو قد سابني من السطر الثالث أيضا.

إني لأتعجب من قدرة الكثيرين من كتابنا ممن يكتبون أكثر من مقال في الأسبوع، وربما بمتوسط ألفي كلمة، ولا يقولون شيئا، هذه القدرة الخارقة على التفاهة، أي أن تكتب آلاف الكلمات ولا تقول شيئا لا توجد إلا في الكتابة العربية، ومع ذلك يستحق كتابها جوائز لأنهم قادرون على ما لا يقدر عليه بشر.

في العالم العربي، خرّجت لنا المدارس السابقة الكاتب الموظف، أي في الصحف الحكومية في بعض البلدان العريقة منها وغير العريقة، يترقى الموظف من المطبعة، إلى الأرشيف، إلى الصالة، صالة التحرير (مش صالة الرقص)، إلى كاتب في البريد، ثم كاتب عمود، ويتطور العمود تدريجيا ليصبح خازوقا قد فُرض على الأمة، موهبة الكتابة لا علاقة لها بكثير ممن يكتبون عندنا.

أرجو أن لا تكون قد تركتني من السطر الثالث أيضا، فالفكرة باختصار هي أنه لم يعد عند القارئ وقت كي يتمتع بحالة التنطع في الكتابة التي تسود عالمنا العربي اليوم، فلا يكفي أن تكون موظفا كبيرا كي يقرأ لك الناس، الناس يبحثون عن فكرة وعن شعاع ضوء جديد يحرك فيهم ساكنا، فهل آن أوان الغربلة، وإفساح المجال للمواهب بدلا من عواجيز الموظفين الذين يتسيدون المشهد؟ «ولاّ انته برضه من مدرسة: حسيبك للزمن؟».