اختلال العالم وإصلاحه بين الإسلاميين واليساريين

TT

«اختلال العالم» هو عنوان كتاب للروائي اللبناني الأصل أمين معلوف. وهو كتابه التنظيري الثاني بعد الأول بعنوان «الهويات القاتلة». وكنت أظن أنه يقصد بالاختلال الحقبة الحاضرة التي سادت فيها «الفوضى البناءة» التي نشرتها الهيمنة الأميركية في زمان العولمة الجديد. لكنني وجدته قد أنفق أكثر صفحات الكتاب على تتبع الاختلالات في عالم الحرب الباردة منذ الخمسينات من القرن الماضي وإلى سقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات. ولذا فإنه لا يمكن التعزي بوجود زمن جميل ينبغي أن نعود إليه!

أما بقية صفحات الكتاب فتدور حول أربع مسائل: النهوض الديني في سائر الديانات وبخاصة الإسلام، وقضية البيئة وأخطارها، والحلول الثقافية للأزمات الكبرى الحاصلة، وعلائق القيادة السياسية أو القيادات بالتصدي للمشكلات. وأمين معلوف حائر تجاه المد الديني الكبير، وهو أدنى إلى اعتباره سلبيا. لكنه يعود للاعتراف بأن هناك أزمة قيم لا بد لمواجهة تداعياتها من الاعتراف بتأثير الدين، بحيث يجري الاحتكام في النهاية - ومن جانب المتدينين وغير المتدينين - إلى العقلي والروحي والثقافي، لتجاوز الإسراف والإفراط والعطش الأخلاقي.

والواقع أنه ما عانت منطقة في العالم ما عانته المنطقة العربية من «اختلال» خلال الحرب الباردة وبعدها. في الحرب الباردة جرى تقاسم المنطقة بين الجبارين، وحرص كل طرف على الاحتفاظ بمكاسبه أو تعظيمها في وجه الطرف الآخر، فتجمدت الأُمور من خلال ذلك الاستقطاب، واستحال التغيير، كما استحال إيجاد حلول مقبولة للمشكلات الكبرى مثل تحرير فلسطين، والتنمية، والحكم الرشيد. وفي تلك الحقبة؛ كما كان الحكام العسكريون (في دول عربية أساسية) ثوريين وعقائديين؛ فكذلك كان المثقفون الذين تنافسوا فيما بينهم أولا فيمن هو الأكثر قومية وعروبة، ثم تنافسوا ثانيا فيمن هو الأصفى ماركسيا ويساريا. وبعد السبعينات من القرن الماضي، ومع انخفاض صوت الاشتراكيات، بدأ هؤلاء المثقفون يفكون تحالفهم مع الحكام الذين فقدوا من وجهة نظرهم «الإحساس الرسالي» والثوري، ويتجهون - مع الحكام بشكل من الأشكال - صوب الولايات المتحدة داعين للديمقراطية وحقوق الإنسان.

لكن المثقفين ذوي الأُصول القومية واليسارية ما كانوا عقائديين أو نضاليين في المرحلة الثانية من تحولاتهم؛ بل إن النضالية الإسلامية هي التي برزت واستعلت، على أساس رفع شعار الأسلمة في شتى الميادين، ومن ضمنها ميدان التنافس لتحرير فلسطين؛ بعد أن انكسرت شوكةُ القوميين واليساريين الثوريين، و«صاروا يميلون للتفاوض مع العدو». وفي سنوات الثمانينات والتسعينات تبلورت لدى الإسلاميين أُطروحة طهورية كاملة. فبحسب رؤيتهم؛ فإن الإسلام صار غريبا في المجتمع والدولة، بسبب الاستعمار والتغريب والغزو الثقافي. وبذلك صار الاختلال كاملا، ويتطلب الأمر تطهرا كاملا وخروجا من الرجس والدنس، ولجوءا إلى ميداني البراءة والولاء، لتعود الأُمور إلى نصابها.

وقد تهددت هذه الأُطروحة الطهورية بعض الشيء في النصف الأول من التسعينات؛ حين كان هناك أمل في أن تنجح مفاوضات مدريد، وأن تطبق اتفاقيات أوسلو. بيد أن المشكلات تفاقمت بعد مقتل رابين، وصعود اليمين الإسرائيلي، وإقبال حماس وفتح على التنافس في الانتحاريات، فصعدت الطهورية الثورية والاستشهادية من جديد، وصارت البيوريتانية الإسلامية بالتدريج هي «المقياس الأخلاقي» لدى الإسلاميين وحتى لدى خصومهم الآيديولوجيين من العلمانيين والليبراليين واليساريين.

إن هذه «الرضّة» القدسية والطهورية بنيت لدى الإسلاميين من إخوان وتحريريين وسلفيين جهاديين عبر عدة عقود من الإدانات لكل ما في العالم، ولكل ما في محيطهم القريب. وقد جرى استخدامها بكثافة في العقد الأخير من السنين بعد هجمة «القاعدة» على الولايات المتحدة وبعدة طرائق: لمنافسة «القاعدة»، أو للسير في ركابها إنما في فلسطين، أو لتبرير الإدانة والتشهير بخصومهم الآيديولوجيين داخل العالم العربي، أو داخل فلسطين. وكانت لهذه الثقافة العقائدية الجديدة نتائجها المباشرة على الساحات الداخلية العربية، والتي تشبه ما كان يجري بين الشراذم الفلسطينية اليسارية، وشراذم حزب البعث في سورية والعراق بين أواخر الستينات ومنتصف السبعينات. وتجلت تلك النتائج الحاسمة بين «الأمانة والخيانة» في استيلاء حماس على غزة، واستيلاء حزب الله على بيروت، وتبرير ذلك تارة بخيانة خصومهم الداخليين، وطورا بأنهم الأقدر على مواجهة العدو الصهيوني.

إن المشكلة في هذه الثقافة القدسية الجديدة، أنها تحول الملف الفلسطيني إلى ملف ديني أو للصراع بين الأديان وبالتحديد بين اليهودية والإسلام.

على أن اختلاف «رؤية العالم» واختلالها لدى الإسلاميين، نتيجة ضغوط العقود، ونتيجة صعود الإسلام السياسي، ونتيجة التعنت الإسرائيلي وتفاقم العنف والاستيطان، وجد صدى له أيضا في أوساط المثقفين والعلمانيين واليساريين السابقين. فسيطرت في أَوساطهم رؤى طهورية دفعت الكثيرين منهم للوقوف وراء الطهوريين الإسلاميين حتى في حالات تورطهم في نزاعات داخلية، وحروب أهلية. ودفعت بعضا آخر للانهماك في نزاعات كلامية وكتابية مع زملاء سابقين لهم، بحجة أن أولئك الزملاء تورطوا في علاقات أو ارتباطات أو مشتبهات تطبيعية مع الإسرائيليين الصهاينة، ولا شك أن بعض هؤلاء الذين اعتنقوا القدسيات التطهرية فجأة مرتبطون ماليا بجهات تتصارع مع الجهات التي يتهمون زملاءهم بالعمل لها. لكن هؤلاء الطهوريين الجدد، هم في الأكثر عقائديون بالفعل، يتملكهم الإحساس بالذنب بدون وعي منهم، لأن ما قدموا لفلسطين ما كان ينبغي تقديمه في العقود الماضية. ولذا فهم يريدون التعويض، إنما في المكان الخطأ والزمان الخطأ. لأنهم باعتناقهم ثقافة الإدانة والتطهير يزيدون من الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها المثقفون العرب، وتعاني منها الثقافةُ العربيةُ. والأزمة أزمة شرعية ومشروعية. فقد درس جل هؤلاء في جامعات أُجنبية، وعملوا فيها بعد تخرجهم، وما عُرفت لهم نشاطات خارج الأكاديمية، إلا بعض المشاركات في ندوات احتفالية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وليس معنى ذلك أنّ ما يقولُهُ هؤلاء ضد زملائهم كُلُّه خطأ. لكنّ التوبة أو الإحساس بالذنب، ليسا السبيل الأسلَم للوصول إلى مواقف سليمة في الملف الفلسطيني.

إن هنا داء أو وباء ناجما عن «اختلال العالم» نزل أولا بالإسلاميين الذين ما لبثوا أن وظفوه ببراغماتية مشهودة في تقسيم المجتمعات، وإقامة الدويلات، في وجه بني قومهم، وليس في وجه إسرائيل. والقضية الأُخرى أن الانقسام أو الصراع الثقافي العربي لم يحصل؛ لأنّ مثقفي الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية، بلغ من هشاشتهم، أنهم سرعان ما انكسروا أمام «التسامي الأخلاقي» للإحيائيين الإسلاميين، واندفعوا وراءهم، عاصفين في طريقهم بكل ما انبنى في العقود الماضية، إما لأنهم خضعوا للابتزاز، أو لأنهم أرادوا التوبة عما يعتقدونه أو يتوهمونه من آثام الماضي، زاعمين أن براءتهم هي مثل براءة الذئب من دم يوسف!