عبد الوهاب المؤدب والتشاؤم الإيجابي

TT

في كتابه الأخير المشترك مع الفيلسوف أندريه غلوكسمان والباحثة السياسية نيكول بشاران يستعرض عبد الوهاب المؤدب تاريخ ثقافتنا منذ البداية وحتى اليوم. إنه يحاول تشخيص المرض العضال الذي أصابنا وأدى إلى تدهورنا الفكري وانحطاطنا الحضاري الذي لا نستطيع أن نخرج منه حتى الآن مهما حاولنا وفعلنا. وقد حاولنا أكثر من مرة في القرن التاسع عشر وحتى منتصف العشرين، ولكننا في كل مرة كنا ننتكس وتُجهض محاولتنا من جديد. ويحصل لنا ما حصل لسيزيف مع صخرته. في كل مرة كان التيار الأصولي الماضوي هو الذي ينتصر ويحتل الساحة وعقول الجماهير. وهذا ما يدفع إلى التشاؤم واليأس، وربما الإحباط الكامل. ولكن المفكر التونسي الشهير لا يقنط من رحمة الله على الرغم من كل شيء، وإنما يظل مثابرا على موقفه الداعي إلى تكرار المحاولة من جديد. نقول ذلك على الرغم من نفاد صبره في بعض الأحيان وتأففه من عدم قدرتنا على الإقلاع والنهوض. من هنا وصفه لنفسه بأنه متشائم إيجابي، وهذا يذكرني بعبارة منسوبة إلى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي يقول فيها ما معناه: ينبغي أن نمتلك تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة والعزيمة. لماذا؟ لأن المهام المطروحة علينا شاقة جدا ولا ينبغي الاستهانة بها عن طريق تفاؤل ساذج أبله. ولكن في ذات الوقت لا ينبغي أن نستسلم أمام الصعوبات ونيأس وتحبط منا العزائم. وعلى هذا النحو نزاوج بين تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة من أجل النجاح في تذليل الصعاب يوما ما وتحقيق النهوض المرتقب. على هذا النحو أفهم مصطلح عبد الوهاب المؤدب الوارد في كتاب «أجمل تاريخ للحرية»: أنا متشائم إيجابي.

لكن كيف يشخص المؤدب المرض العربي الراهن؟ لا نستطيع في هذه العجالة أن نجيب على السؤال بتفاصيله. ولكن يمكن القول بأنه يرفض إلقاء المسؤولية فقط على العوامل الخارجية كالإمبريالية والاستعمار كما يفعل معظم المثقفين العرب. لا ريب أنه يدين بكل قوة المرحلة الاستعمارية وخيانة التنوير من قبل القوى الأوروبية التي كان يفترض بأنها المدافع الأول عنه. ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية الجسيمة المترتبة على انعدام الحرية في عالمنا العربي أو الإسلامي. بمعنى آخر لا نستطيع إلى الأبد أن نتحجج بالإمبريالية والاستعمار من أجل تفسير غياب الحرية وهيمنة الاستبداد والأنظمة البوليسية على مجتمعاتنا. عاجلا أو آجلا ينبغي أن نتفحص الأسباب الداخلية لرزوح الاستبداد إلى مثل هذا الحد. لهذا السبب يستعرض المؤدب مراحل تاريخنا الفكري والسياسي لمعرفة الأسباب الداخلية التي منعت العالم الإسلامي من الانتساب إلى حركة الأنوار الأوروبية والفلسفة العقلانية والإنسانية الحديثة.

الشيء الخطير والمعقد في العملية هو أن أعداء التنوير في العالم الإسلامي يستخدمون تصرفات الاستعمار الأوروبي البشعة في الجزائر ودمشق والقاهرة وسواها من أجل نسف فكرة التنوير من أساسها، وكذلك فكرة الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان وكل مبادئ الفلسفة السياسية الحديثة. وهذه محاجة مفحمة بالفعل على الأقل ظاهريا. فهي تقول لك: أين هو التنوير يا صديقي؟ لا يوجد تنوير ولا ديمقراطية ولا حقوق إنسان ولا كل هذا الكلام الفارغ، وإنما توجد فقط مصالح غربية جشعة لا تشبع من الاستغلال والهيمنة والتوسع والنهب. في الواقع إن هذه المحاجة الشيطانية تستخدم جزءا من الحقيقة لكي تجهز على الحقيقة كلها، ولكنها للأسف سائدة في الشارع العربي الذي تسيطر عليه تلك الشعارات الآيديولوجية المعادية للغرب والحضارة الحديثة بشكل عنيف جدا. لا ريب أن الغرب مسؤول إلى حد كبير عن هذا الوضع بسبب خيانته لمبادئ الحق والعدل والحرية والديمقراطية وتغليبه لمصالحه العاجلة عليها. ولكن الاكتفاء بذلك يعني كمن يقول: «لا تقربوا الصلاة».. ناسيا التكملة: «وأنتم سكارى».

في مكان آخر من الكتاب يشكو المؤدب من استقالة المثقفين العرب، فهم لا يقاومون المد المتطرف بما فيه الكفاية، بل إنهم يستسلمون له دون أي مقاومة أحيانا. بالطبع هذا الكلام لا ينطبق على الجميع وإنما على التيار الغالب. ما سر هذه المهادنة؟ هل هو الخوف من المجتمع؟ ويتأسف المؤدب على عصر النهضة العربية عندما كان قاسم أمين يندد بالتخلف وغياب الحرية واحتقار المرأة، وعندما كان أحمد لطفي السيد يحمل راية التنوير ضد الاستعمار من جهة، وضد الاستبداد المحلي والتخلف من جهة أخرى.

بالأمس القريب رحل أحد تلامذة أحمد لطفي السيد، أو بالأحرى أحد تلامذة تلميذه طه حسين، أقصد الدكتور فؤاد زكريا، فمن شعر برحيله يا ترى؟