في الفيضان

TT

هذه هي العاصفة الثالثة في عمري. أو الإعصار. أو الفيضان. أو الطوفان. الأولى كنت دون العاشرة. وكنت مع أمي ورفيقتها ننزل من قريتنا إلى قرية في الوادي، لزيارة شقيقة الصديقة. ثم أمطرت. ثم هطلت. ثم رعدت. ثم أغزرت. ثم راحت السواقي من حولنا تفيض وتهدر. ثم تلاحقت الغيوم فوقنا سوداء ثقيلة تفرش عتما وظلاما، وترش أنهارا وسيولا. ثم تحول كل ما حولنا إلى أنهر. حاولنا الاحتماء تحت بعض الصخور. لكن الماء ارتفع من تحتنا. وصرنا بللا كالمياه. لكنني كنت صغيرا. وكانت أمي تقول لي: لا تخَف، لا تخَف. وكنت أصدق أمي. كانت أصدق من المطر حتى في الفيضان.

المرة الثانية منذ سنوات. كنت عائدا من باريس إلى لندن بمفردي. وبعدما خرجت من جوار باريس وتضاءلت البيوت وامتدت سهول الشمال، بدأت تمطر. ثم لم تعد مساحات الزجاج قادرة على رد الهطول. ثم تحول المطر إلى شلالات صغيرة متلاصقة ومتلاحقة. ثم رأيت، قدر المستطاع، أن جوانب الطريق من حولي بدأت ترتفع وترتفع ثم أخذت تفيض. أبطأت وأضأت أضواء التحذير. لكن الطريق كانت شبه فارغة. الطريق بين باريس ولندن شبه فارغة. لقد أصغى جميع السكان على طرفي المانش إلى نشرة الطقس أمس، إلا أنا. رفض المطر أن يهادن. لم يعد في إمكاني العودة لأنني لم أعد قادرا على رؤية لوحات السير. تذكرت فيضان الوادي وأنا صغير. ولم تكن أمي إلى جانبي فخفت خوفا فظيعا. وبقيت خائفا إلى أن بلغت العبارة التي حملتني إلى الشاطئ البريطاني.

المرة الثالثة قبل أيام. كنت أشاهد على التلفزيون في نيويورك برنامجا تاريخيا، ثم ظهرت على الشاشة إنذارات من فيضانات. المطر أفاض نهر كذا ونهر كذا وغابة كذا ومدينة كذا. أسماء معظمها من أيام الهنود الحمر، بقيت على حالها. وأسماء مدن في ولاية نيويورك وفي ولاية نيوجرسي. وكنت في غرفتي في الطابق الحادي والعشرين. وأخذ المطر يضرب الزجاج بعنف. وراحت الأشجار أمامنا تميل حتى الأرض. وخلت الشوارع. وتحول البرنامج التاريخي إلى إنذارات متلاحقة وأسماء من أيام الهنود الحمر. ولقد محا الرجل الأبيض الهنود وأبقى أسماءهم حفاظا على التراث.