خلفاء دبلوماسية الملك عبد العزيز الناجحة

TT

ثمان وأربعون ساعة كانت هي الفترة الزمنية الفاصلة بين لقاء خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل المملكة السعودية مع روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي، ونفي الرياض أن يكون المسؤول الأميركي قد بحث خلال المقابلة المذكورة سبل إسهام السعودية في مشاركة أميركا والغرب في الضغط على الصين لفرض عقوبات على إيران بسبب مشروعها النووي. وسبب النفي السعودي السريع، هو ما بثّته وكالات الأنباء نقلا عن غيتس من أن السعودية لديها استعداد لاستغلال نفوذها للضغط على الصين. والمعروف أن بكين لديها تحفظات كثيرة على فرض عقوبات دولية على إيران لإثنائها عن استكمال برنامجها النووي.

وقد راجعت إلى كل تصريحات روبرت غيتس عقب لقائه مع خادم الحرمين الشريفين وبقية قادة المنطقة لأستوضح الأمر بهدوء، فوجدت أن وكالات الأنباء حرفت ما ذكره وزير الدفاع الأميركي، ربما عن قصد وتعمد تحريف أقواله لصالح جهة معينة، أو دون قصد، وحتى هذا فيه خطأ مهني بالغ، لأنه لا يجب على وكالات الأنباء أن تبث تأويلات، وإنما عملها يتعلق بالأخبار في المقام الأول، وحتى دون ذكر انطباعات، فما قاله غيتس تحديدا هو أن «دولا في المنطقة مستعدة لاستخدام نفوذها للضغط على الصين كي تؤيد فرض عقوبات على إيران». ولكن ردا على سؤال لغيتس بعد محادثاته في المنطقة عما إذا كان مضيفوه مستعدين لمساعدة الولايات المتحدة في التغلب على المعارضة الصينية والروسية.. قال وزير الدفاع الأميركي: «لدي إحساس بان ثمة استعدادا للقيام بذلك». واستطرد المسؤول الأميركي قائلا: «لكن الحاجة إلى ذلك أقل في ما يتعلق بروسيا، لأنني أعتقد أن موسكو مقتنعة بالفعل بالعقوبات إلى حد بعيد، والأمر يتوقف أساسا على الصين».

لقد آثرت نقل ما ذكره غيتس حرفيا للاستدلال على أن نفي السعودية المشار إليه في بداية المقال هو نفي في محله، وليس نفيا دبلوماسيا موجها إلى الداخل أو إلى منطقة الخليج.

واتضح أيضا أن غيتس لم يذكر السعودية أو غيرها مطلقا، وأن الأمر وصل من الكذب والافتراء مداه.. والسؤال الذي يفرض نفسه على الساحة: «لماذا الزّجّ باسم السعودية في أتون حرب دبلوماسية مشتعلة بين أطراف كثيرة؟ هذه الأطراف تشمل بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي حليفا معها، ثم روسيا التي توازن مواقفها بين علاقاتها العسكرية والاقتصادية والتجارية مع إيران وعلاقاتها الدبلوماسية مع أميركا وأوروبا، ثم الأهم لدينا الصين، التي تعلن صراحة رفضها لأي عقوبات دولية قد يحاول مجلس الأمن الدولي فرضها على إيران، على اعتبار أن الموقف الصيني المعلن هو التأكيد على الحوار والدبلوماسية.

من الواضح أن من مصلحة بعض الأميركيين الزج باسم السعودية للتلويح لإيران بأن قوى مهمة في منطقة الشرق الأوسط والخليج تقف مع معسكر الغرب في الحرب الدبلوماسية - حتى الآن - ضد طهران. هذه القوى هي السعودية التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية متوازنة مع الجميع، ويتوقف دورها على تقديم المشورة والنصح لجميع الأطراف دون فرض مواقفها على أي منها.

وباعتبارها قوة إسلامية، خليجية، إقليمية، عربية، سارعت السعودية إلى نفي ما تردده وكالات الأنباء نقلا عن وزير الدفاع الأميركي، وكان بإمكانها عدم الرد أو النفي أو تجاهل ما قيل. ولكنها أرادت أن يكون موقفها جادا لا مائعا مع الوقوف على الحياد دون الميل إلى أي طرف سوي الحق. فالسعودية أعلنت مرارا ضرورة إخلاء منطقة الشرق الأوسط بما فيه الخليج من أسلحة الدمار الشامل، وضرورة أن يتم معاملة إسرائيل نفس معاملة إيران، وأنه من حق الدول والشعوب أن يكون لديها برنامجها النووي للأغراض السلمية.

علما أن القمة الخليجية قبل الأخيرة أعلنت في بيانها الختامي نية دول المجلس الدخول إلى عالم الطاقة النووية السلمية، وأعتقد أن دولة الإمارات العربية قد اتخذت خطوات جادة من جانبها في هذا المضمار لإطلاق برنامجها النووي السلمي.

ومن نافلة القول التأكيد على أن مشكلة العقوبات أم الدبلوماسية هي مشكلة أميركية وغربية مع إيران وليست خليجية أو سعودية. فالرياض تدعو دائما إلى ضرورة تجنيب المنطقة ودولها ويلات الحرب، لأن الحرب أو أي ضربات عسكرية سواء صاروخية أو جوية ضد إيران، لن تقتصر على الأهداف الإيرانية وحدها، ولكن نتائجها السلبية وآثارها الضارة ستطال دول الجوار الخليجية.

إذن.. الدعوة السعودية إلى تفعيل الخيار الدبلوماسي هي لصالح المنطقة، لأنه كفاها حروبا ودمارا منذ حرب الخليج الأولى (العراق - إيران) ثم حرب الخليج الثانية (أميركا والتحالف الدولي - العراق) ثم حرب غزو العراق وما تلاها من دمار للعراق هذا البلد العربي الشقيق.

الأمر المهم وبعيدا عن هذا الملف النووي الإيراني الذي شغلت به أميركا العالم ليل نهار، أن السعودية أمامها قضايا أخرى كثيرة تمثل أهمية قصوى لها وللخليج والعرب. فهي خرجت لتوها من مواجهات عسكرية ضد المتمردين الحوثيين على حدودها الجنوبية مع اليمن، وأسهمت مع جارتها الجنوبية في التوصل إلى اتفاق مهم للغاية يشيع الاستقرار والأمن في الجنوب مع تمويل مالي ضخم للإسهام في إحداث طفرة اقتصادية في اليمن.

وتمثل عملية السلام أهمية قصوى في اهتمامات السياسة السعودية، فهي تلعب دورا مهما من أجل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والتوصل إلى اتفاق سلام شامل ينهي حالة النزاع في المنطقة عموما. فالسعودية لاعب رئيسي في لجنة المتابعة العربية وهى صاحبة مبادرة السلام العربية، وتسعى جاهدة لإصلاح ذات البين بين الفرقاء الفلسطينيين، وأمامنا اتفاق مكة الذي أهدره الفلسطينيون غير عابئين بمصلحة الوطن والشعب الفلسطيني.

وإذا كنا نتحدث عن الدور السعودي وأعباء السياسة الخارجية لهذه البلد المحوري، فقد نشير بصورة عارضة إلى ما ذكره شاه محمود قريشي وزير خارجية باكستان عن أن بلاده توافق على قيام السعودية بالوساطة لإنهاء خلافاتها مع الهند. فما معنى أن يذكر مسؤول الدبلوماسية الباكستانية أن بلاده توافق على الوساطة السعودية دون أي اعتراضات؟ معناه أن لدي السعودية ملفا دبلوماسيا شاملا بقضايا المنطقة وخبرة طويلة في إجراء الوساطات الدولية والتدخل لإنهاء النزاعات والصراعات والتدخل من أجل تهدئة الأمور. وهذا المطلب الباكستاني لم يأتِ من فراغ، فالتاريخ يسطر للسعودية معرفتها الدقيقة لتفاصيل نزاعات المنطقة كافة وكيفية التدخل لحلها، مع احتفاظ كل طرف بعرض قضيته بحيادية تامة، مما يسهل عملية الوساطة السعودية التي تعتمد على دور الدبلوماسية العريقة.

ويكفي أقوال الرئيس الأميركي تيودور روزفلت الشهيرة التي قالها بعد لقائه مع الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة السعودية في قناة السويس: «خلال ساعة واحدة علّمني ملك السعودية عن الشرق الأوسط أكثر مما علّمني أصدقائي الصهيونيون طوال حياتي كلها».

* كاتب ومحلل سياسي بحريني