العراقيون صوتوا.. كيف ستصوت المنطقة؟

TT

يرى باحث مختص في الشأن العراقي والشرق أوسطي أن النظام الإقليمي القائم يستند على حساسية عالية في علاقة السياسات الداخلية بالخارجية، ولأن مفهوم الدولة - الأمة لم يتجذر في المنطقة ليؤسس لهويات «قومية» خاصة بكل دولة بحيث يصبح فضاؤها السياسي - الاجتماعي مستقلا بدرجة عالية عن الفضاء الخارجي، وبحيث لا تغدو أي تغيرات سياسية كتلك التي تنتجها الانتخابات ذات أثر استراتيجي على هوية البلد وطبيعة اتجاهاته، فإن ما يحدث في أي من دول المنطقة، لا سيما إن كانت بأهمية العراق، له علاقة وتأثير على النظام الإقليمي كما أن الأخير يتأثر به، ولذلك لا تغدو الانتخابات شأنا داخليا كما هو الحال في أوروبا بل تغدو جزءا من الصراع الإقليمي وتوازنات القوى ومجمل النظام الجيوسياسي. لذلك فإن منطقتنا تتمتع باستثنائية خاصة من حيث إن الديمقراطية والانتخابات لا تمثلان الشكل السائد أو حتى المطلوب من قبل النظام الدولي، لا سيما في هذه المرحلة، حيث يسود الاعتقاد بأن الديمقراطية ستأتي بخيارات غير قريبة من مصلحة القوى الغربية، ومن هنا تميل أدبيات التحليل السياسي الواقعي في الغرب إلى انتقاد سلوك الرئيس الأميركي بوش من حيث إنه انتهى إلى تمكين الشعب العراقي من التعبير عن خياراته التي لا يمكن أن تكون مضمونة دائما، وفي أقل الأحوال فإنها تتسم بتعقيد ومتاعب لا تعانيها سياسات القوى العظمى عندما تتعامل مع نخبة سياسية مهيمنة لزمن طويل وثابت في الحكم وتستمد شرعيتها من انسجامها مع توازنات القوى الإقليمية والدولية لا من التفويض الشعبي. لذلك أيضا لم يسمح للنظام السياسي الجديد في العراق بالاستقرار لأن الصراع الجاري في هذا البلد ليس كما يدعي أصحاب الشعارات صراعا بين احتلال ومقاومة، ولا كما يفضل بعض الباحثين صراعا بين جماعات إثنية وطائفية ثابتة وأزلية، بل هو في حقيقته صراع على السلطة وما يعنيه الإمساك بها من القدرة على تحديد توجهات البلد وهويته، لا سيما في بلد كالعراق لديه موارد نفطية هائلة. إن المناطق الاستراتيجية الهشة في المنطقة كالعراق ولبنان هي مناطق جاذبة للصراع لأنه يجري على تحديد مصيرها ولأن تحديد هذا المصير يؤثر بالمجمل على المنظومة الجيوسياسية الإقليمية، ولذلك يصعب القول إن أيا من البلدين يمكنه أن يستقر دون أن ينتج معادلة سياسية منسجمة أو في الأقل غير مهددة لتلك المنظومة، وبسبب الطابع المتفتت للمجتمع في كلا البلدين، فإن القدرة على النفاذ عبر التشكيلات الإثنية والطائفية كبيرة. من هنا نفهم أن هناك ميلا دوليا وإقليميا إلى التدخل في ما يجري في العراق لا سيما والصراع فيه ما زال يجري على النظام وهويته واتجاهاته لأن الكل يخشى أن استقرار هذا النظام وسيطرته على حركة المجتمع ونجاحه في إخماد التمردات الداخلية سيجعل التدخل مستقبلا أقل تأثيرا، ومن هنا أيضا لا يخفي البعض رغبته في أن يكون في العراق ديكتاتور يمكن التفاهم معه على ديمقراطية محملة بالمفاجآت، ولذلك كانت مشكلة الكثيرين مع صدام حسين لا تكمن في ديكتاتوريته بل في صعوبة التفاهم معه أو الوثوق به. لذلك فإن صراع العراقيين، أو بالأحرى غالبيتهم، هو في مقاومة هذا النزوع الخارجي نحو أولوية الاستقرار على الديمقراطية عبر إنتاج معادلة يمكن أن يتحقق فيها الهدفان وهو أمر سيرتبط بتحولات السنوات القادمة.

من هنا فإن الانتخابات في العراق ولبنان ليست كافية لوحدها كي يتم إنتاج حكومة جديدة بل لا بد أن يتبعها نمط آخر من التصويت، وأقصد به ذلك الذي يجري خارج الحدود حيث يتصافق ويتصارع اللاعبون الدوليون والإقليميون من أجل التأثير في شكل الحكومة الجديدة، وكما كانت دمشق وطهران والرياض وواشنطن والقاهرة وتل أبيب واسطنبول معنية بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، فإن شيئا مشابها سيتبع الانتخابات العراقية؛ حيث ستدخل العواصم الإقليمية في لعبة تشكيل الحكومة وتحديد أضلعها، وإذا لم يحصل أي طرف على صفقة مرضية فإنه سيلجأ إلى التأثير عبر وسائل أخرى كالعنف بهدف الحيلولة دون أن تستقر الأوضاع على المعادلة التي ستنتجها تلك الصفقة. إنها لعبة خطرة لأنه بقدر ما يقود التوافق الإقليمي على صفقة مواتية للجميع إلى حكومة تتمتع بتفويض إقليمي إلى جانب التفويض الشعبي للتعامل مع المشاكل العراقية الكبيرة، بقدر ما يؤدي غياب هذا التوافق إلى تعقيد عمل أي حكومة قادمة، والمشكلة هي في إيجاد قاعدة مشتركة بين إرادة الناخب العراقي وخيارات غالبية أبنائه من جهة، وبين إرادة القوى الخارجية المؤثرة من جهة أخرى، وهو أمر لا يحصل بترجيح إرادة على أخرى، لأنه كما أن بإمكان دول الإقليم أن تجعل الحياة صعبة لأي حكومة عراقية قادمة لا تحظى برضاها، فإن بإمكان العراقيين أن يجعلوا الحياة صعبة لأي حكومة تفرض عليهم فرضا.