الجنادرية: البحر واحد غير أن السمك ألوان

TT

هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أدعى فيها للمشاركة في مهرجان الجنادرية الثقافي الذي ينعقد هذا العام تحت عنوان «عالم واحد وثقافات متعددة»، أما ركيزته الفعلية أو قضيته الواضحة فهي «السلام والحوار وقبول الآخر»، وهو تناولته ندوة النقاش الأولى والرئيسية في المهرجان، وكانت كلمة الدكتور محمد جابر الأنصاري بالفعل هي أكثر الكلمات نفاذا إلى صلب الموضوع بعنوانها: «رؤية الملك عبد الله بن عبد العزيز للسلام والحوار وقبول الآخر».

هناك أيضا جناحان لمهرجان الجنادرية كانا من ملامحه الأساسية منذ إنشائه وهما التراث والثقافة، وهنا لا بد من اعتراف أرجو أن لا يسبب ضيقا لأحد وهو أنني ولسنوات طويلة في مصر كنت أشعر بالقلق عندما أستمع لكلمة تراث وربما ببعض الخوف أيضا، كنت أخشى هذه الكلمة تراث، ومن كلمة أخرى كانت تمشي دائما بصحبتها وهي كلمة الخصوصية، لعلها ماتت أو اندثرت أو هاجرت لتسكن أرضا أخرى في الشرق الأوسط.

في بداية عهدي بهذه الكلمة، أو بداية عهدها بي، كانت في مجال المسرح في نهاية الستينات، لم أشعر تجاهها بالارتياح لسبب لا أعرفه، وتطلب الأمر مرور سنوات طويلة قبل أن أكتشف أن حملة الاهتمام القسري بإشاعة الأعمال التراثية في المسرح وفي مجال الأفكار بوجه عام لم تكن إلا إجراءات حمائية بهدف التمترس في خنادق الماضي عجزا عن التعامل مع الحاضر، وهو ما يتطلب إقامة سد عالٍ من كل ما هو قديم لحماية الحاضر من غزو المستقبل. هكذا كان اللجوء للتراث في المسرح وفي مجالات فكرية أخرى متعددة ولسنوات طويلة، يخفي عجزا عن تناول الحاضر ومن ثم المستقبل بالبحث والتفسير والتحليل والإبداع، فكانت النتيجة هي - في الغالب الأعم - تقسيم العالم إلى جزأين، هم ونحن، بل واستطعنا في أحوال كثيرة إقناع العالم بذلك، أي أنهم شيء ونحن شيء آخر.

أذكرك بأن ما أقوله لك هو مجرد اعتراف دون أن يعني ذلك الزعم بصحة ما أفكر فيه أو ما فكرت فيه، وذلك قبل أن أقول لك إن مهرجان الجنادرية يأتي هذا العام بمفهوم مختلف وجديد طبقا للشعار الذي رفعه بوضوح «عالم واحد.. وثقافات متعددة» الاعتراف بأننا نحيا في عالم واحد.. وأن تعدد الثقافات والهويات أمر طبيعي ومطلوب من أجل إثراء الحياة ذاتها. من المستحيل أن يكون تعدد الثقافات والهويات فوق سطح الأرض مؤديا للتحارب والدمار المشترك، الأقرب إلى العقل والمنطق والطبيعي أيضا أن تكون هذه الهويات المتعددة، أعمدة قوية تقوم عليها وحدة العالم.

لست مسحورا بالتراث، أنا فقط يسحرني الفكر الشعبي في أي زمان ومكان على وجه الأرض، أنا أحب الاستماع إلى الناس الذين لم تلوثهم الثقافة بعد، كان لي زميل أثناء خدمتي العسكرية منذ نصف قرن، من هواة الغناء الشعبي والمواويل، في صحراء العباسية عندما كانت صحراء، كان يغني لليل.. ثم يغني موالا قديما أذكر منه: «البحر واحد.. بس السمك ألوان».

أليس هذا هو بالضبط ما نعنيه بالعالم الواحد والثقافات المتعددة؟

نحن نستخدم كلمة الآخر للفصل بين الآخرين وبين الأنا أو الذات، وأنا أعتقد أنه استخدام لتسهيل الفكر العملي، أما أنا فأعتقد أنه لا يوجد لها مدلول واقعي على الأرض بالنسبة لي على الأقل، الآخر كلمة من نتاج الفكر السياسي وهو متغير بطبيعته وليس من نتاج الفكر الفلسفي الأكثر ثباتا في حياة البشر. في مهرجان الجنادرية، وفي حفل الافتتاح، ألقى وزير خارجية فرنسا الأسبق هوبير فيدرين كلمة وكان يقف خلفه تشكيل جميل من حرس الشرف الفرنسي التابعين لفرقة الصحراء، كانوا يرتدون الزي العسكري الأوروبي، والعباءة العربية الشهيرة وعمامة مغربية جميلة لكي يؤدوا حركة سلام سلاح بالسيوف، فهل كان هذا السياسي الفرنسي - لاحظ أن فرنسا تمثل ضيف الشرف في المهرجان - وحرس الشرف الذين كانوا يرتدون الثياب الأوروبية والعربية العسكرية.. هل كانوا هم الآخرين؟

والسيدة البلغارية بوكوفا مدير عام «اليونيسكو»، المسؤولة عن ثقافة العالم وتربيته وتعليمه، والحفاظ على تراثه جميعا، هل هي الأخرى.. كانت هي الآخر؟

وعلى المنصة في الندوة الأولى، تكلم الكاتب الصحافي الإنجليزي الشهير باتريك سيل.. فهل كان هو الآخر؟

ثم تكلم الإعلامي والسياسي الشهير يفجيني بريماكوف، الروسي والسوفياتي من قبل، حيث خدم في النظامين، تكلم أيضا في الندوة، فهل هو.. الآخر؟

عدد كبير جدا من الأكاديميين الغربيين حضروا المهرجان لمتابعة ما يحدث فيه ولدراسة كل ما يطرحه المثقفون العرب من أفكار.. هل يمكن اعتبارهم.. مندوبين عن الآخر. لقد جاء الوقت الذي نعترف فيه بأن هذا الكوكب الصغير تسكنه قبيلة واحدة هي قبيلة.. نحن.

أعود إلى قبيلتي، قبيلة المثقفين العرب، اختفى الآخر من بينهم، كانوا جميعا يمثلون جبهة واحدة لطيفة، مع احتفاظ كل منهم بهويته بالطبع. لعل الشعار الذي ينادي بوحدة العالم تسلل إلى قلوبهم، فشعروا بأنه ولا واحد فينا عدو للآخر. هل تصدق أنني وجدت المثقفين في المهرجان ظرفاء، حتى هؤلاء الواقعين في خصومة مع الغرب وأميركا والسلام والمفاوضات، وكل أنواع التسويات السلامية، الذين يشعرون بالفزع من الآخر ومن كل آخر.. كانوا يعلنون كل ذلك برقة وظرف وابتسامة عريضة، لا تسمع نقاشات حادة في ردهة الفندق، لا توتر.. لا ملامح وجه مشدودة ولا حتى كلمات محفوظة منمقة، ربما لغياب الكاميرات والميكروفونات، اختفت معاركهم غير المفيدة وعادوا بشرا يتسمون جميعا بالرقة والتهذيب والاستسلام لجمال اللحظات. ربما أكون الوحيد الذي لاحظ ذلك، ربما لأنني ولسنوات طويلة كنت ألتقي المثقفين في ميادين القتال فقط في بلاتوهات الفضائيات، حيث يتصور المثقف أن المطلوب منه أن يمزق الشخص الجالس أمامه للانتصار لرأيه أو للحصول على الشعبوية، أعتقد أن عددا كبيرا منهم في المهرجان اكتشف أنني، لست.. ولم أكن يوما ما.. الآخر.