خيانة لقلقية

TT

تناولت في مقالتي السابقة موضوع الحب بين الطيور والإخلاص الزوجي بينها. كذا عرفت عن معشر اللقالق. بيد أنها تخرج أحيانا عن طورها هذا فتسلك سلوك بني آدم في الخيانة. وكان منها هذه الحكاية الغريبة التي روتها لي أولغا جويدة، زميلتي في «الإذاعة البريطانية». شهدت أحداثها في قضاء عقرة عندما كان والدها قائمقاما فيها.

كانت أمامهم شجرة توت وافرة، بنى زوج من اللقالق عشهما فيها. اعتادت على حمل الطعام إليهما، كل ما زاد من فضلات الرز والباميا ونحوها مما يأكله العراقيون. تضعه تحت الشجرة فتنزل اللقلقة الأنثى وتأكل، ثم يتبعها الذكر ويأكل مما تبقى. قالت أولغا، أدركت لأول مرة أن الطيور تتميز عن البشر في منطقتنا في تقديم الأنثى على الذكر. قلت لها هل تعلمين السر؟ قالت لا. قلت لها لأن اللقالق لم تترب عندنا. إنها ولدت ونشأت في بلاد القفقاس وتعلمت على مكارم الفروسية هناك.

مضت الزميلة في حكايتها فقالت، مرت أيام ولاحظت غياب اللقلقة عن الشجرة. أصبح اللقلق يقوم بكل حضانة البيض بنفسه ومن دون أنثى تتناوب وإياه في أداء الواجب. ينزل من الشجرة ويلتهم كل ما تركته له أولغا ويعود مسرعا إلى العش قبل أن يبرد البيض. لاح لها وقد بدا الحزن والاكتئاب عليه وأخذ يفتقد شريكة حياته وشهيته للطعام.

تحير القوم في أمر الأنثى. ما الذي حصل لها؟ هل قتلها أحد، كما هو شائع في البلاد، طمعا في ريشها؟ تطوع الناس لجلب الأكل لهذا الفحل من أمة اللقالق في محنته الفريدة. مرت أيام وإذا بأولغا تشهد من نافذة غرفتها طيرا صغيرا أبيض يلوح من وراء الأفق. اقترب شيئا فشيئا وإذا به تلك الأنثى القديمة تعود إلى الشجرة. ولكنها دخلت فورا في معركة ضارية مع زوجها اللقلق تحاول أن تطرده من بيتها. وتعالى صياحهما بحيث جعل جمهور القرية يتركون أعمالهم ويخفون لمشاهدة هذه المعركة اللقلقية بين أنثى وذكر. ولكن اللقلق الفحل قاتل بجلادة واستطاع أن يحمي عشه ويطردها من الشجرة. وعادت من حيث جاءت.

مرت أيام ثم رأت أولغا سربا من اللقالق يتقدم من بعيد حتى إذا اقترب من الشجرة انبرت الأنثى القديمة من بينه لتقود هجوما شنيعا على زوجها، الذي قاتل ببسالة دفاعا عن عشه وفراخه. ولكن العدد تغلب على العدة. سقط اللقلق ميتا والدم القاني يضمخ ريشه الأبيض. وتبعته أفراخه موتى واحدا بعد الآخر، واستولت الأنثى على العش مع عشيقها الجديد.

حضر العقراويون بفؤوسهم وحفروا قبرا مناسبا للقلق الشهيد. وتلا قس من الكنيسة الكلدانية صلاة على روحه وأرواح أفراخه قبل دفنها. ثم هجموا على الزوجة الخائنة وهجروها وهدموا العش القديم.

قصة عجيبة. لو روتها لي أولغا في هذه الأيام لما صدقتها. ولكنني سمعتها منها في أيام غابرة، عندما كان الناس في العراق لم يعتادوا الكذب الذي اعتادوا عليه في هذه الأيام.